الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 01، 2024

"تحريض على الحلم" نص مفتوح : عبده حقي


تنبثق من فم الساعة الرملية لفافة تشبه الأفعى، تنزف لغة لا يفهمها إلا جذور شمس منتصف الليل. تمشي، لكنها ليست هي التي تمشي ، ولا تمشي، بل مجموعة من المسارات بلا أقدام تتعرج داخل نفسها، وتدور إلى الداخل حتى يفقد مفهوم المسافة كل معانيه. عيون بلا وجوه، ثقوب سوداء ذات لون لا نهائي، تحدق من زوايا كل غرفة لم تكن موجودة قط، تلقي بانعكاسات لضحكة مجهولة المصدر تشق الهواء مثل صدى ناعم.

الصوت، أو ربما أصوات عديدة، تردد أغنية الدموع، وترسم خطوط الذكريات في الهواء مثل الأصابع التي تمشط الضباب. إنه هنا، ذلك السيد الذي ليس أحدًا، يحمل باقة من الوشوشات التي تتناثر في النسيم، كل بتلة منها سر لم يكن ينوي أبدًا الاحتفاظ به. ترتجف الريح، أو ربما كانت مرآة، بلمسة أيادٍ غير مرئية، تضغط على جلد الواقع حتى يمتد رقيقًا وشفافًا، حجابًا فوق حقيقة العدم.

يسقط الضوء الفضي على مائدة غير معدّة لأحد، حيث يتم تقديم شبح وجبة طعام بواسطة ظلال ترقص بلا شكل، وتتلاشى حوافها في ليل لا ينتهي أبدًا. تطعن شوكة بأسنان من المرايا المكسورة نسيج الوقت، وتفك خيط الدقائق الذي تنسكب على الأرض في بركة من النبيذ عديم اللون. يشرب بعمق، على الرغم من أن شفتيه لا تلمسان الكأس، مستمتعًا بطعم الساعات الضائعة في دوامة الفكر التي تلتف حول عقله مثل الكرمة.

يفتح الباب، أشبه بدعوة إلى مكان لا يمكن أن يكون، وتخطو من خلاله، رغم أنها تظل خلفها، هنا وهناك، في مفارقة من الحركة تتحدى كل المنطق. الجدران من الحرير والصراخ، نسيجها ناعم على العقل، لكنه كاشط للروح. تمرر يديها عليها، وتشعر بنبض الأحلام التي تنبض مثل الطبلة في صمت أنفاسها.

ساعة بلا وجه ولا زمن، كانت تدق في الاتجاه المعاكس، كل ثانية تقترب خطوة من البداية التي لم تكن قط نهاية. يراقبها، أو ربما هي، أو لا أحد منهما، بينما تدور عقاربها بعنف، وتطارد ذيولها في رقصة لا تعرف إيقاعًا ولا نبضًا، فقط نبض الفراغ الذي يبتلع كل شيء. تتساقط الدقائق مثل قطرات الشمع من شمعة تحترق بلا لهب، وتتجمع في قاعدة واقع لا يستطيع الحفاظ على شكله.

السماء عبارة عن لوحة من تنهدات الأجنة، يتغير لونها مع مزاج الريح . تتجمع السحب، أو ما قد يكون سحبًا، مثل الأفكار البكماء ، وتبدو حوافها حادة بوعد المطر. يمشي تحتها، ويشعر بثقل دموعها تضغط على جلده، وهو الضغط الذي يتراكم ويتراكم حتى يصبح الهواء نفسه سميكًا جدًا بحيث لا يستطيع التنفس.

إنها هناك، صورة في الأفق تنحني مثل علامة استفهام، تحني الضوء بطرق تتحدى كل المنطق. شعرها، عبارة عن شلال من النار المظلمة، يتدفق إلى الأعلى نحو السماء، حيث يختلط بالنجوم التي تومض داخل وخارج الوجود مثل الأفكار التي لم تتشكل بعد. عيناها، عبارة عن برك من ندى الليل ، لا تعكس شيئًا، ومع ذلك تحمل كل شيء في أعماقها.

الصوت، أو ربما صمت، يتردد صداه عبر الفراغ بين اللحظات، اهتزاز يتردد صداها في عظام الأرض ذاتها. إنها أغنية، أو صرخة، أو ربما كلاهما، لحن بلا نغمات ينسج من خلال الواقع، ويسحب الخيوط حتى يبدأ النسيج بأكمله في التفكك. إنها تستمع، أو تفعل ذلك، إلى صوت دقات قلبها، رغم أنه ليس قلبها، بل قلب العالم الذي ينبض داخل صدرها.

تتحرك الأرض تحت قدميها، كموجة من الأرض ترتفع وتهبط كأنفاس عملاق نائم. يمشي بجانبها، أو خلفها، أو ربما أمامها، دون أن تترك خطواته أي أثر على الطريق الذي لا يقود إلى أي مكان. إنهما معًا، وإن كانا منفصلين، يشكلان ثنائية لا يمكن التوفيق بينها، فكل منهما انعكاس للآخر في مرآة الوجود.

الشجرة تنمو، أغصانها تمتد نحو السماء في لفتة شوق لا تتحقق أبدًا. أوراقها من زجاج، كل منها شظية من حلم مكسور، تعكس الضوء الذي لا يشرق. يقطف ورقة من الشجرة، رغم أن يده لا تلمسها، ويحملها إلى شفتيه، حيث تذوب في ضباب من الذكريات التي تدور حول رأسه مثل التاج.

والنهر يتدفق، مياهه كثيفة بغبار اللحظات ، تحمل معها رائحة مكان يستحيل تسميته. تركع بجانبه، رغم أنها لا تركع، وتغمس يدها في الماء، تشعر ببرودة ألف أمل ضائع تتسرب إلى جلدها. يتحدث النهر، ولو من دون كلمات، صوته همهمة خافتة تتردد في الفراغات الفارغة في عقلها.

إنه هناك، سيد أو لنقل شخصية تقف على حافة العالم، حيث تلتقي الأرض بالسماء في خط يختلط ويتغير مثل الحلم. إنه يمد يده، ممسكًا بشيء ما أبعد من قبضته، شيء ينزلق بعيدًا مثل الرمل من بين أصابعه. إنها تراقبه، وهو يتقدم للأمام، ويسقط في الفراغ الذي يتثاءب أمامه.

النجوم في الأعلى تومض، ضوءها وميض من الفكر في مساحة العدم الشاسعة. تسقط ، مثل المطر، أو الدموع، أو ربما كليهما، كل منها شرارة حياة تنطفئ قبل أن تشتعل بالكامل. يمسك إحداها في يده، رغم أن يده لا تغلقها، ويحملها إلى صدره، حيث تحرق حفرة في قلبه.

يُغلَق باب، ويعم الصمت العالم، ربما الأمر كذلك؟ ينتهي الحلم، أو يبدأ، أو ربما كلاهما، حلقة من الفكر تدور بلا نهاية، ولا تجد حلاً، ولا تجد السلام. يظل اضطراب الحلم باقياً، وارتعاشًا في نسيج الواقع لا يمكن تهدئته أو إخماده أبدًا.

وهكذا هم يقفون، أو يجلسون، في الفراغ بين اللحظات، في التوقف بين الأنفاس، منتظرين أن يستقر الحلم . إن اضطراب الحلم أبدي، نبض ينبض داخل قلب الكون، إيقاع لا يمكن إنكاره، ولا يمكن تجاهله. إنه الهمس في الظلام، والقشعريرة في الليل، والارتعاش في الروح الذي لا يتلاشى أبدًا، ولا يموت أبدًا.

0 التعليقات: