لا اسم للطائر. يرفرف، يدور، يهمس بلا كلمات، تلامس أجنحته الخيط الذي يربط الريح بأنفاس النساء. من هن هؤلاء النساء؟ لسن نساء، بل أصداء شيء ما، رائحة فاكهة لم توجد قط، همهمة صوت لم يُسمع إلا مرة واحدة في أعمق نوم، ضاع في طيات ليل لا ينتهي أبدًا.
يجلسن ـ بل يحمن في أماكن ليست هنا ولا هناك، عيونهن مغمضة عن منطق العالم، وأيديهن تمسك بالفراغ . خيط من الصمت ينسدل من بين ضفاههن، وينسج شبكة لا تلتقط إلا بقايا أحلام الأمس. العصفور، بريشه المغموس في ألوان صرخة صامتة، يحوم فوقهن، في رقصة، كحركة تنسى نفسها في كل منعطف.
يصبح العصفور ظلا
مرسومًا في الهواء، منحنى، شكلًا بلا هيئة، همسة يمكن أن تكون اسمًا ولكنها ليست
كذلك. يهبط، أو ربما يرتفع، يشق طريقه عبر خصلات المرأة، الذي ليس شعرًا ولكنه
أنهار، تتدفق للخلف إلى الفضاء حيث نسي الوقت أن يتوقف. الأنهار، المليئة بالساعات
التي ليس لها عقارب، تفيض فوق حواف الذاكرة التي ترفض الاحتفاظ بالماء، تتسرب إلى
الفراغ حيث تذهب الأفكار لتفقد نفسها.
هناك صوت، بل هو
أقرب إلى غياب الصوت، اهتزاز يرتجف في الهواء مثل هزة ارتدادية لكلمة منسية. تمد
النساء - أو هل ما زلن نساء؟ - أصابعهن المصنوعة من الدخان، يمسكن بخيوط الصمت،
ويشدونها أكثر فأكثر، حتى يصبح الهواء كثيفًا للغاية بلا شيء حتى يكاد يتحول إلى
شيء. يضحك العصفور، أو ربما يبكي - من المستحيل معرفة أيهما يفعل، أو ما إذا كان
هناك أي فرق. يتردد صدى الصوت - أو غيابه - عبر حجرات أذن غير موجودة، ويتردد صداه
على جدران فكرة لم تتشكل بعد.
تظهر شخصية ما،
ولكنها ليست شخصية حقيقية، بل مجرد شكل، أو إشارة إلى وجود كان من الممكن أن يكون
موجودًا ذات يوم لو سمح الوقت بذلك. تتحرك الشخصية في الهواء مثل ظل بلا ضوء،
وتتلاشى حوافها في الريح، وتذوب في أنفاس النساء اللاتي لسن نساء. يغوص العصفور،
وتشق أجنحته الهواء مثل ذكرى سكين، أو قبلة، أو كلمة لم تُقال قط. يقطع الخيوط،
ويفكك الصمت، ويطلق سلسلة من الأصوات التي تتساقط في الفراغ، كل منها نغمة في
سيمفونية لم تُكتب أبدًا، تُعزف على آلة غير موجودة.
تبدأ النساء ـ
بل الأصداء ـ في الغناء، أو ربما لا يكون الغناء غناءً، بل هو نقيض الصمت، صوت
ينطوي على ذاته، وينهار في دوامة تلتف حول طيران العصفور. وتندمج أصواتهن ـ إن
كانت أصواتاً ـ مع الريح، فتلتوي وتدور، في جديلة من الصوت والصمت تلتف حول أجنحة العصفور،
فتسحبه إلى الأسفل، أو إلى الأعلى، أو إلى الجانبين، إلى فضاء ليس هنا ولا هناك.
في هذه المساحة،
تشتعل ريشة العصفور، أو ربما تتحول إلى جليد ــ من المستحيل أن نحدد ذلك. تنتشر
النيران ــ أو الصقيع ــ فتبتلع أصداء النساء، أم أنهن ما زلن نساء؟ تحترق، أو
تتجمد، أو كليهما، فتتحول إلى شيء آخر تماما، شيء لا يمكن تسميته، ولا يمكن رؤيته،
بل الشعور به فقط، مثل ريشة جناح في ظلمة حلم لا ينتهي أبدا.
يستمر العصفور
في طيرانه، أو ربما لم يعد يطير بل يسقط، ويدور في دوامة إلى أسفل، إلى أعماق فكرة
لم تكن في الحسبان قط، أو كلمة لم تُقال قط، أو صمت لم ينكسر قط. تختفي النساء ـ
إن كنّ نساء ـ في النيران، أو الصقيع، أو صوت أجنحة طائر تخفق في الهواء الذي لم
يعد موجوداً. يظل الفضاء الذي كنّ فيه ـ أو حيث لم يكنّ فيه ـ فارغاً، لا يملأه
إلا صدى صمت لم يكن موجوداً قط في البداية.
يهبط العصفور،
يحوم فقط، معلقًا في الهواء، أجنحته متجمدة في لحظة تمتد إلى الأبد. النساء قد
رحلن، أو ربما لم تكن هناك أبدًا، مجرد خيالات لفكرة تومض في ذهن طائر لا اسم له.
الهواء كثيف بالصمت، أو ربما ممتلئ بالصوت، همهمة تهتز في الفضاء بين الواقع
والحلم، بين الفكر والذاكرة، بين ما هو وما لم يكن أبدًا.
يفتح العصفور
منقاره، ولكن صوتًا - أو صمتًا - يخرج، ويملأ الفراغ حيث كانت النساء ذات يوم، أو
لم يكن، يتردد صداها عبر الفراغ، أغنية ليست أغنية، صرخة ، صوت . تبدأ النساء - أو
أصداؤهن - في التلاشي، والذوبان في الهواء، وتصبح واحدة مع الريح، ورحلة العصفور،
والصمت الذي ليس صمتًا.
ثم لا يوجد شيء.
أو ربما كل شيء، في آن واحد، ينهار في الفضاء حيث كانت النساء ذات يوم، أو لم يكن،
حيث طار العصفور ذات يوم، أو لم يطير، حيث تردد صدى الصمت ذات يوم، أو لم يحدث قط.
لقد رحل العصفور، أو ربما لم يكن موجودًا قط، مجرد فكرة، أو حلم، أو ذكرى لم تكن
موجودة قط. لا يزال الهواء ساكنًا، أو ربما يتحرك مع أنفاس النساء اللاتي لم يعدن
موجودات، أو لم تكن موجودات قط.
إن الصمت ـ أو
الصوت ـ يظل باقياً، كتذكير بشيء لم نتذكره قط، أو أثر لحلم لم نحلم به قط. والعصفور،
إن كان طائراً قط، اختفى، ولم يبق خلفه سوى صدى طيرانه، أو ربما ذكرى صمت لم يوجد
قط. والنساء، إن كنّ نساء ، أصبحن واحدات مع الهواء، أو ربما كن كذلك دوماً، مجرد
خيالات من فكرة، أو حلم، أو صمت لم يوجد قط.
0 التعليقات:
إرسال تعليق