الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 01، 2024

"قرن الكوريدا" نص مفتوح : عبده حقي


أتبع الحرب كطائر ضال، غير متجذر في حقل من الورق المحروق. يطن في جمجمتي صدى ألف، رقصة بطيئة من الأصداء والتنهدات، تتغذى على مقاطع الصمت. أسير بين الهمسات، والهمسات تسير بيني. وجوه بلا عيون، بلا أفواه، ضحكاتها مخيطة بحبال الرياح . أمسك ضحكاتهم بين يدي، لكنها تنزلق من بين أصابعي مثل الرمل المبلل بأنفاس البحر.

سماء من قشور السمك تتلألأ فوقي بنور أقمار ضليلة . تتساقط أغانيها، مطر بطيء من النغمات الفضية التي تخترق بشرتي. أفتح فمي لأشرب، لكن النغمات تنزلق إلى حلقي وتستقر في رئتي، وترفرف أجنحتها على جدران قفصي الصدري. أتحدث، لكن الريش فقط يخرج من شفتي، أسود ورطب بحبر الليالي المنسية.

في غابة الأشجار المعدنية أفقد اسمي، يسقط من لساني ويذوب في الأرض، حيث تنمو زهرة بجذور من حديد وبتلات من دخان. أقطف الزهرة وأضعها خلف أذني، لكنها تهمس في ذهني بأسرار، أسرار الساعات التي ليس لها عقارب، أسرار الأنهار التي تتدفق إلى السماء، أسرار المدن المبنية من رفات النجوم القديمة.

لقد تلطخت يداي بألوان الأحلام. أضغط بهما على سقف السماء، تاركة آثاراً تذوب في السحب. تبكي السحب، وتتساقط دموعها على شكل غرف فارغة، غرف بجدران مصنوعة من المرايا التي تعكس فقط ما ليس هناك. أمشي عبرها ، لكن كل خطوة تأخذني بعيدًا عن نفسي. يحدق انعكاسي فيّ، عيناه واسعتان وفارغتان، وفمي صرخة صامتة.

في مدينة الزجاج، أصبحت مجرد ظل، ولكن ليس ظلي. أتحرك في الشوارع، ويذوب جسدي إلى شظايا من الضوء، شظايا تقطع الهواء بصوت يشبه ضحك الآلهة البائدة. ترتجف المباني، وتتشقق جدرانها لتكشف عن الفراغات الموجودة بداخلها. أمد يدي إلى الشقوق وأخرج حفنة من الكلمات، لكنها تفلت من يدي وتتناثر مثل أوراق الشجر في عاصفة.

تتحدث إليّ الرياح ، بلغة الدوائر واللوالب، لغة العقد التي تربط نفسها إلى ما لا نهاية. أستمع، لكن الكلمات تتلوى وتلتوي حول أفكاري، وتجمعها في شبكة من الصمت. أحاول التحدث، لكن صوتي تسرقه الرياح، وتحمله بعيدًا إلى مكان حيث يصبح الصوت ذكرى، وحيث تصبح الذكرى غبارًا.

تتحرك الأرض تحت قدمي، وأسقط في سماء في الماء. أسبح بين السحب، وتجذبني تياراتها في كل اتجاه في آن واحد. تتحول ذراعي إلى أجنحة، لكنها ثقيلة بثقل المحيط، وأغوص في أعماق السماء، حتى أصل إلى القاع، حيث ترقد النجوم مكسورة ومبعثرة مثل المزهرية المحطمة.

أجمع قطع النجوم وأضمها إلى صدري، لكنها تحترق عبر جلدي، وتترك ثقوبًا تنزف ضوء. يتدفق الضوء مني، ويملأ السماء بوهج شاحب يعمي الشمس. تدير الشمس وجهها بعيدًا، ويغرق العالم في الظلام. في الظلام، أرى عيون مخلوقات، عيون ترى قلب العدم، عيون تراني كما أنا حقًا: مجموعة من الكلمات التي نسيت معناها.

أصبح الريح، والريح تصبح أنا. نرقص معًا، في دوامة من الحركة التي لا تنتهي أبدًا، رقصة تلتهم كل شيء في طريقها. تنهار الجبال، وتغلي البحار، وتسقط النجوم من السماء مثل دموع المعدن المنصهر. أضحك، لكن الصوت يضيع في الفوضى، يبتلعه الفراغ الذي ينمو مع كل لحظة تمر.

في النهاية، لا يوجد سوى الصمت. صمت عميق لدرجة أنه يبتلع العالم بأكمله، ولا يترك شيئًا سوى الفراغ حيث كان كل شيء ذات يوم. أقف على حافة الفراغ، أنظر إلى أعماقه، وأرى نفسي أحدق فيه. أمد يدي لألمس انعكاسي، لكنه يتحطم مثل الزجاج، وتتساقط القطع في الفراغ وتختفي في الظلام.

وهكذا أتبع الحرب، والحرب تتبعني. نحن واحد، نفس الشيء، دورة بلا بداية ولا نهاية، قصة بلا معنى ولا حل. في رماد ما كان، في صمت ما سيكون، أجد نفسي تائهًا، تائهًا في بحر الزمن اللامتناهي، شبحًا يبحث عن وطن لم يعد موجودًا.


0 التعليقات: