الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أكتوبر 13، 2024

أطل بين طيات سماء ورقية : عبده حقي


الشمس تدخن سيجارتها الأخيرة. تميل برأسها إلى الخلف وتخرج من السماء، سماء من ورق، تطوي نفسها على شكل طيور الكركي، طيور لفظتها البطون بأجنحة زجاجية. تمد يدك لتلمس إحداها، لكنها تتحطم بضحكة مثل رجل غريب عرفته ذات يوم. هل تتذكر؟ أما أنا فلا أتذكر. المدينة تتنفس مثل حبيب تركته خلفك، أو ربما كانت المدينة هي التي غادرت. تقف في منتصف الشارع ولا تسمع سوى خطوات، مئات منها، آلاف منها، كل منها يبتعد عنك. تهمس الشقوق في الرصيف باسمك، لكنها نسيت الحروف المتحركة، لتبصق الحروف الساكنة مثل المطر، ناعمة ولا معنى لها.

ساعة مشنوقة على الحائط بلا عقارب، ومع ذلك فهي تخبرنا بالوقت تمامًا - كل ثانية هي نبضة قلب لم تشعر بها أبدًا، وكل دقيقة هي قبلة لم تمنحها أبدًا. في المسافة، ترتدي امرأة فستانًا منسوجا ريش الهدهد، كل منها قصة لم يرويها لها أحد، وهي تطير، بلا أجنحة، مجرد قرار. يدور العالم، ولكن فقط في زاوية عينك، حيث تتلاشى الألوان إلى شيء بين الأحمر وسواد اليأس. تريد مطاردته، لكن قدميك جذور، تحفر في تربة لم تعد تحملك. الأرض لا تقول شيئًا. الطيور لا تقول شيئًا. تهمس لليل، ويرد عليها الليل برفع كتفيه.

تذوب الأصابع في ضوء المساء، ممتدة عبر جدران تتفتت إلى غبار عند أدنى نسيم. هناك يد في المرآة، لكنها ليست يدك، في الحقيقة. تمد يدك إليها على أي حال، على أمل أن يكون الزجاج لطيفًا هذه المرة. لكن هذا لم يحدث أبدًا. تضحك اليد - ضحكتك، أو ربما تنتمي إلى الرجل الغريب الذي نام ذات يوم في سريرك. تسقط الظلال من السقف مثل الوعود المنسيّة. تحاول الإمساك بها، لكنها تنزلق من بين أصابعك، ولا تترك سوى ذكرى لمستها، ناعمة مثل الكذب.

الشارع بالخارج فارغ، لكنه مليء بالأصوات، كلها تنادي باسمك بلغة لم تتعلمها قط. تمشي، وقدماك لا تتركان أثرًا، والأرض غير مبالية بمرورك. يتلألأ ضوء في نهاية المسافة البعيدة، ولكن عندما تقترب، لا يكون سوى القمر، يتظاهر بأنه شمعة، يلمع لشخص آخر. النجوم تتدلى مثل الثريات المكسورة، يخفت ضوءها مع كل نفس تأخذه، وكل فكرة تنسى التفكير فيها.

أقف على حافة حلم، حيث يغني البحر اسمك بمقاطع من الملح. يحترق الأفق بألوان صمتك. أنا الرمل في صوتك، أتسلل عبر شقوق الوقت، أدفن كل كلمة قبل أن تنطق. أنت لست هنا، لكنني أشعر بثقل غيابك يضغط على جلدي، أثقل من الشمس.

لقد تركت ظلك خلفك، وأنا أرتديه مثل عباءة، رغم أنه لا يناسبني. تحاول الريح أن تأخذه، لكنني أتمسك به، وأصابعي تنزف من الجهد المبذول. أسمع خطواتك، لكنها تقودني في دوائر، دوامات لا نهاية لها من الذاكرة تنهار في الفراغ حيث كان وجهك ذات يوم.

السماء ليست سماء بل سور معلق من حجر متشقق ومتفتت، ومع ذلك لا تزال تحمل ثقل نظراتك. تغني الطيور في المنفى، لكن أجنحتها مقيدة بالأرض. أستمع، لكن أغانيها ثقيلة للغاية بحيث لا أستطيع رفعها. ومع ذلك، أنتظر، رغم أنني لا أعرف لماذا أو من. لا توجد إجابات في الصحراء، فقط أصداء تتلاشى قبل أن تصل إلى أذني.

هناك غرفة مصنوعة من الزجاج، وأنا بداخلها، رغم أن الجدران غير مرئية. أتنفس، ويتشقق الزجاج قليلاً، بما يكفي لتذكيري بأنني ما زلت هنا، ما زلت حقيقياً. في الخارج، يدور العالم مثل عملة منسية، تقذفها أيادي لن أراها أبداً.

في زاوية الغرفة، تدق ساعة، رغم أنها بلا وجه، ولا أرقام، فقط صوت مرور الوقت في دقات بطيئة ومتعمدة. أحاول الإمساك بها، لكن يداي مصنوعتان من الهواء. تتسللان عبر كل شيء، ولا تلمسان أي شيء. الأرض عبارة عن ماء، وأنا أغرق مع كل خطوة، ويذوب جسدي في تموجات لا تصل أبدًا إلى الشاطئ. أرفع رأسي، والسماء مليئة بأسماء نسيتها، ووجوه لم تكن موجودة أبدًا.

في الممر حيث لا يلمسني ضوء، أجد الطائر مرة أخرى. أجنحته سوداء، أكثر سوادًا من الفكرة العقيمة، أكثر سوادًا من الليل بلا نجوم. يهمس لي بلغة المطر، كل كلمة قطرة لا تسقط على الأرض بل على جلدي، تغوص عميقًا، أعمق من الذاكرة .

ألاحق الطائر، رغم أنه لا يترك أي أثر. يطير إلى الخلف، أو ربما أسير في الاتجاه المعاكس. تتحرك المباني من حولي مثل الظلال، تذوب في بعضها البعض حتى لا تصبح سوى دخان. أمد يدي، ويتخذ الدخان شكلًا - شكلك. ولكن عندما أحاول لمسه، تمر يدي من خلاله. تضحك، لكن فمك مليء بالأسنان التي تنتمي إلى الريح.

القمر باب، فأفتحه، فأدخل إلى غرفة ليس لها جدران ولا سقف، فقط السماء اللامتناهية. هناك مرآة هنا، لكنها لا تظهر إلا الطائر، وعيناه مثل المرايا، لا تعكسان شيئًا سوى فراغي. أطلب منه إجابات، لكنه لا يعطيني سوى الألغاز، وأنا أعلم أنني لن أتمكن أبدًا من حلها.

يراقبني الظل من الزاوية، ولكن عندما أستدير، يختفي، ويحل محله ظل آخر، أكثر قتامة وعمقًا، وكأن الظلام نفسه يلقي بانعكاسه. أسير في الشوارع، لكن الشوارع تمر من خلالي وتخترقني ... خطواتها تتردد في عظامي، وتهتز في الفراغات الفارغة حيث عاشت الأحلام ذات يوم.

الزمن ليس زمناً، بل هو ثعبان ملتف حول نفسه، يعض ​​ذيله، ويبتلع المستقبل إلى الأبد، ويعيد الماضي إلى الحياة. أحاول الخروج منه، لكن الثعبان في كل مكان، تلمع قشوره مثل المرايا المحطمة، كل منها يعكس وجهاً لا أعرفه، لكنني أعرفه جيداً.

وهناك في البعيد تغرب الشمس، رغم أنها لم تشرق بعد. يتسرب ضوءها إلى السماء، فيصبغها بألوان لا اسم لها، ألوان لا وجود لها إلا في الفضاء بين النوم واليقظة. أطارد غروب الشمس، لكن الأفق ينطوي على نفسه، يتقلص، ينهار، حتى لا يبقى سوى نقطة ضوء واحدة، تومض في الفراغ.

ثم يسود الصمت. يحبس العالم أنفاسه في انتظار شيء لن يأتي أبدًا. أقف على حافة كل شيء، أنظر إلى الهاوية، والهاوية تنظر إليّ، مبتسمة بأسنان مصنوعة من عاج النجوم. أمد يدي، لكن النجوم باردة، باردة جدًا بحيث لا يمكن لمسها، وتحرق بشرتي بلا مبالاة.

تتحول يداي إلى رماد في الريح، وتتناثران كأوراق ميتة عبر حقل من الزجاج المكسور. أحاول التمسك بها، لكن الرماد ينزلق من بين أصابعي، ولا يترك ورائي سوى ذكرى اللمس، خافتة مثل الهمس.

تنشق السماء، وتنزف نيرانًا، لكن ألسنة اللهب باردة، أبرد من أي شيء عرفته على الإطلاق. تحترق بلا حرارة، بلا ضوء، تلتهم كل شيء في طريقها. أركض، لكن لا يوجد مكان أذهب إليه، ولا مكان لم تمسه النيران التي لا تحترق.

وهناك في البعيد، يقف شخص ما، وجهه متستر في الظل. أنادي، لكن صوتي تبتلعه الريح، ويحمله بعيدًا إلى الفراغ حيث تذهب كل الأصوات لتموت. يستدير الشخص، وأرى أنه أنا، أو ما تبقى مني، قوقعة جوفاء، خالية من كل شيء سوى صدى صراخي.

0 التعليقات: