يشكل كتاب التشبيه والتجريد في النقد التشكيلي العربي أهمية بالغة في المشهد الفني العربي، قياسا بما طرحه من إشكالات وقضايا وبدائل، فقد رصد الدكتور محمد البندوري من خلال دراسته العلمية في هذا الكتاب الذي صدر عن مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال مجموعة من التداخلات النقدية التي تحتاج إلى معالجة حصيفة جديدة، وصريحة وواضحة، إذ طرق باب المصطلحات النقدية التي لم تنل حظها الأوفر لا في الخطاب التشكيلي، ولا في الخطاب البصري، ولا في الخطاب النقدي، باعتبار أن بعض هذه المصطلحات وخاصة منها التشبيه والتجريد والحروفية ظلت موضوعا هامشيا في الممارسة النقدية العربية، وفي مختلف الاستعمالات في الدراسات الأكاديمية. وبذلك اعتبر المؤلف أن المقاربة ظلت رهينة بالمناخ الفكري والثقافي والفلسفي، ورهينة بخصوصية الخطابات المعنية بذلك. ولذلك اقترح تطويع النظريات والمناهج والإجرائيات التي تتواءم مع المجال النقدي العربي في أرجاء الوطن العربي ومع خصوصية تلك المصطلحات لتتمكن من إبراز دلالاتها في المشهد التشكيلي العربي بما يكفل تجاوز تلك الإشكالات وحل معضلة النقد بما يكفي من التخصص والدراية والمعرفة الحقة.
ولكي يبرر هذا
المسعى؛ تطرق إلى ما تشكله العلاقة بين التشبيه والتجريد وجمالية التشكيل من قضايا
متنوعة وإشكالات في الثقافة العربية، إذ شكل النقد
أزمة حقيقية نتيجة إخفاقه في معالجة مختلف القضايا التي اقترنت بالتشكيل العربي
المعاصر. وقد اتخذت الحروفية العربية منحى تطوريا لم يواكبه النقد، في وقت شكّل فيه
الخطاب التشكيلي العربي المعاصر حيزا من الاستقلالية، ولم يُدمج الحروفية في النسق
التشكيلي العربي بما يكفي من المعرفة النقدية. وقد رأى البندوري أن السياق الحروفي
قد متح مقوماته الجمالية من الخط العربي، ومتح أسسه الفنية من التشكيل العربي، واتخذ
القيمة الرمزية والبلاغية والبيانية من التراث الحضاري العربي في نطاق التمثل
التأويلي، ما أكسبه طابعا فنيا متفردا. وأظهرت القوة التشكيلية المجال التعبيري في
نطاق تجريدي شكّل دعامة فنية لتمثيل الهوية العربية بالرغم من الخطابات الفنية
المبعثرة، وبالرغم من الإخفاقات النقدية التي لم تواكب تطور العملية الإبداعية
التشكيلية العربية المعاصرة.
لكن
الفنان العربي في المشرق والمغرب -حسب الدكتور محمد البندوري- استطاع أن يستثمر
الجانب البلاغي والبياني إلى أبعد الحدود، فأسهم في صنع حركة تشكيلية تجريدية
عربية ذات أسس ومقومات عربية شملت عدة أجناس من الفنون، وأنواع من التشكيلات
الجمالية، بل واستطاع بعض الفنانين المعاصرين إبداع أشكال جديدة وخطوط جديدة، فانتشر
العمل الفني العربي في كل الربوع مع نخبة من المبدعين العرب المعاصرين الذين
استلهموا إنتاجاتهم من التراث العربي الأصيل، ومن الأشكال الضاربة في عمق التاريخ،
ومن التشكيل المعاصر في آن واحد. لكن الحركة النقدية ظلت بعيدة في فارقية ساحقة
بين ما ينتجه الفنانون وبين المواكبة النقدية الحصيفة.
ورأى
البندوري أنه بالرغم من بروز عدة إشكالات في التشكيل العربي المعاصر، فقد اتخذت
العلاقة بين المادة التشكيلية العربية والأسس الجمالية مسارات متفرعة، إذ استفادت
من وظائف المادة الخطية البنائية ومن صورها وأشكالها، فظهرت الأشكال
الحروفية والمادة التشكيلية في صيغ جمالية تنطوي على تساؤلات نقدية، خلفت فراغا في
المشهد التشكيلي العربي المعاصر، ويبرر البندوري ذلك؛ بأن ما يشكله الأسلوب الفني للتشبيه والتجريد في التشكيل العربي الآني يُعد أحد الركائز الهامة لتحريك
المادة النقدية في نطاق بلاغي وبياني وجمالي، فهي التي يمكن أن تقوم بتطويع أدلته البلاغية وفق التناسب المكون من الشكل واللون والحرف والرمز والعلامة
والتجريد.
ويعلل البندوري انتقاده اللاذع؛
بأن النقد العربي المعاصر لم يغيّر نظرته إلى المصطلحات البلاغية حين تم دمجها في
التشكيل، وظل يعتبرها مصطلحات بلاغية مرتبطة بالأدب، ولم يعلم أغلبُ النقاد أن
هناك تحولا فنيا طرأ على تلك المصطلحات وأضحت تؤدي معاني أخرى في التشكيل، بل أضحت
تؤدي معاني جديدة مع تطورها في التشكيل العربي؛ فقد اقترنت المادة التشكيلية العربية
المعاصرة بخاصيات تلك المصطلحات واحتوت سلسلة من العلامات والرموز القديمة وأسهمت
في التحول الفني والتجديد في البناء التشكيلي العربي، من باب المعنى، انطلاقا من
المبنى المتعدد المنابع، والمتنوع من حيث المادة الفنية والجمالية، لأن الثقافة العربية
حسب البندوري قد وفرت جملة من المعارف التي ساعدت في كشف مجموعة من الحقائق التي
تتصل مباشرة بالمصطلحات الفنية، وبتطورها وطرائق توظيفها معرفيا وعلميا وفلسفيا
وتقنيا، فمهدت السبيل للمقاربة بين عدد من المفردات والعناصر التشكيلية، وبين
المادة التجريدية في عمقها الفني والجمالي، وهو ما أسهم بمعية بعض النظريات لبعض قليل جدا من ذوي الاختصاص في تطبيق التشبيه
والتجريد في سياقه الفني والتصويري والبلاغي والتمثيلي على الإنتاجات التشكيلية، وذلك
لأهميته في صنع مضامين متنوعة وفق خاصيات فنية ذات دلالات إضافية على
مستويات متعددة، استنادا إلى ما يزخر به التراث العربي من مصطلحات بلاغية وما
يكتنزه الفن التشكيلي العربي من قيم فنية وجمالية.
وبذلك، يرى البندوري بأن تأثير تلك المصطلحات
على مسار الفن التشكيلي العربي المعاصر كان قويا وله انعكاسات إيجابية على المنحى
الإبداعي، إذ إن الأساليب الخطية والحروفية والتشكيلية عموما بجمالياتها
المتنوعة، وبتركيباتها المختلفة قد تطورت إلى حدّ ما بصيغ تجريدية، على نحو من
البلاغة البصرية، التي أنتجت المعنى المشترك. كما أن ظهور منجزات تجريدية عربية قد
ارتبط بالتحول في فكر الفنان العربي المعاصر الذي انفتح على الإبداع والتجديد من
باب التجريد -بوعي أو بغير وعي- حيث ظهرت مواد تجريدية أثْرت الحمولة الثقافية والفنية
العربية بتحولات إبداعية لها وزنها في الساحة التشكيلية، وإن كانت لا تزال تحتاج
إلى نقد متخصص متفاعل مع المصطلحات البلاغية. وقدم البندوري نماذج تطبيقة للبرهنة
على طرحه النقدي الصريح.
وختم
بأنه يجب أن تتحوّل نظرة النقاد العرب إلى التشبيه والتجريد، وأن يبحثوا في الصيغ
التجريدية التي تحتوي التشبيه والجمال والحرف، وأن يتم التفاعل علميا ومعرفيا
ونقدا مع كيفيات تحول المصطلحات البلاغية إلى معاني تشكيلية، واعتماد الخصائص
الفنية في سياقات بلاغية وبيانية بروح نقدية تجديدية، تسهم في صنع مساحة تشكيلية
عربية متطورة فنا ونقدا، آملا أن يخرج النقد التشكيلي من مأزق الآداب، وأن يواكب
تطور المصطلحات من الأدب إلى التشكيل بروح نقدية متخصصة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق