كان حي الملاح مدينة داخل مدينة، صندوق أسرار محاط بالهمسات والوشوشات العابرة والهاربة عبر النوافذ، صدى لحياة لمسناها ولكننا لم نعرفها تشربناها عن عمق . هناك، أشار إلى باب الخياط، وفم خشبي مفتوح لدخولنا، وكأنه انتظرنا قرونًا حتى تعبر خطواتنا الصغيرة عتبته الواطئة.
استقبلنا موشي الخياط -وجه تلاشى الآن في ضباب الذاكرة-. كانت يداه الطويلتان الرقيقتان تمسكان بشريط قياس، يفرده كما لو كان حريرًا، كما لو كان الوقت نفسه يلفه حول أطرافي.
وقفت أمامه، وقد حاصرتني
نظراته الكهرمانية، وجسدي الصغير لا يزال متجمدًا في ذلك الجزء من الزمن بينما لف الشريط
حول صدري وذراعي وساقي. ثم تمتم بأرقام لم أستطع فهمها، وخطها في مذكرة ربما كانت من
جلد حصان قديم. انزلقت الأيام مثل العملات المعدنية في نهر الزمن، وعندما عدت ذات
يوم من كهولتي ، كان في انتظاري هناك كوستيم - رمادي اللون، مبطن بظل الليل. كان على
مقاسي وكأن خيوطه حبكتها من نسيج أحلامي.
تساقطت الأعوام كأوراق
الشجر، ووجدت نفسي مرة أخرى عائد إلى الملاح ، وكانت خطواتي أثقل، وأثقل كاهلي بثقل
الحروف والكتب، والدروس الغريبة التي تجمعت مثل السحب الداكنة حول ذهني. كانت مدرستنا
تتقاسم سور عاليا مع مدرسة عبرية، وكان ضحكنا يتردد صداه بنفس لغة الأطفال. كنا نركض
ونضحك، وأقدامنا تتشابك في زوبعة الغبار، أنا وأصدقائي اليهود، وأصواتنا تتشابك مع
أصواتهم، ننسج القصص، ونتبادل الحلوى والأسرار، ونربط أنفسنا بطريقة لا يمكن للكلمات
أن تشفي غليلي للتعبير عنها.
خلال أيام السبت يخرج
جيراننا اليهود إلى شوارع الملاح في مواكب من الألوان والضحك، وكانت ملابسهم تلمع مثل
الأحلام التي بللتها أشعة الشمس. كانوا يسيرون عبر الملاح وكأنهم يطوفون، ويجرون ضحكاتهم
مثل الشرائط. كنا نحن أبناء المسلمين نراقبهم، مفتونين بقبعاتهم الصغيرة المستديرة،
التي كانت تستقر مثل أقمار سوداء فوق رؤوسهم. كنا ننتزعها منهم، في سرقة طفولية
بريئة، فتتساقط القبعات مثل النجوم، فقط ليطاردنا آباؤهم عبر الأزقة الملتوية ، والتي
تدور مثل شبكة القدر نفسها.
ثم تغير كل شيء وتلاشى
الدفء بيننا، وتحول إلى باقة زهور ذابلة تحت وطأة الغضب واللعنات القديمة الخفية .
واجتاح العداء الملاح كعاصفة رملية، فغطى قلوبنا، ولم يترك شبراً واحداً دون أن يمسه.
وفجأة، ظهرت جدران حيث لم يكن هناك جدران، وأبواب مغلقة حيث كانت مفتوحة منذ
الماضي السحيق.
لقد غادروا – في عربات
من الضوء والمعدن، اختفوا مثل الدخان، انزلقوا عبر الشقوق في أسوار المدينة إلى الدار
البيضاء، إلى فرنسا، إلى أماكن لا أستطيع إلا أن أتخيلها اليوم. أصبحت المنازل خاوية،
تصفر فيها الرياح والمحلات التجارية ، والشوارع نفسها ، تتردد فيها خطوات لن تعود أبدًا.
أصبحت مكناس شبحًا يرتدي عباءة ما كانت عليه ذات يوم، تطاردها الظلال، والأطفال الذين
لم يكبروا أبدًا، والضحك الذي يلمع مثل الجمر المحتضر.
في مكان ما في علية منسية، كان هناك كوستيم رمادي بخطوط سوداء،
ينتظرني حتى الآن، مطويًا في غباره، كأثر من حياة مخيطة من الذاكرة، منسوجة في نسيج
الزمن.
كان الملاح ساكنًا،
وكأنه يتنفس الصمت، وكأن كل الأرواح التي كانت تجوبه ذات يوم تركت أنفاسها معلقة في
الهواء، لتشكل جوا ثانيًا فوق الشوارع الفارغة. الجدران، التي كانت تنفجر ذات يوم بالضحك
الخافت، تقشرت مثل الذكريات المتساقطة، وتنهار تحت وطأة الغياب. الأبواب التي كانت
ذات يوم مفتوحة لطوفان من الأصوات لم تعد الآن سوى شفاها متجعدة، مغلقة بإحكام وكأنها
تخفي أسرارًا رقيقة ومكسورة للغاية بحيث لا يمكن التحدث عنها. الغبار الناعم مثل الرماد،
غطى كل حجر، تحية أخيرة من الشوارع نفسها، وكأنها شعرت بنهاية بنهاية ما ، حزن عميق
لدرجة أن الزمن نفسه انحنى تحته.
وتجولت هناك، شبحًا
بين الأشباح، بقايا حية من حلم منسي. كانت الحجارة تحت قدمي تهمس بقصص أستطيع أن أتذكرها
تقريبًا، أسماء تتصاعد مثل فقاعات في بركة راكدة - عمار، أوهانا، الخياط الذي أفلت
اسمه مني لكن يديه لمست ذاكرتي ذات يوم كنسيم خافت. كانت الظلال تتحرك على طول الجدران،
تومض داخل وخارج الوجود، وجوه نصف متشكلة، ضحك بالكاد مسموع، كل همسة خيط تسحبني مرة
أخرى إلى عصر ضاع من كل شيء إلا الذاكرة. كان الملاح حديقة من الأصداء، متضخمة بكروم
شبحية، مشهد حيث لم يكن الحاضر سوى دخيلا عليه.
في بعض الأحيان، كنت
أظن أنني ما زلت أراهم. نساء يرتدين تنانير طويلة، وشالات مشدودة بإحكام حول أكتافهن،
يتحركن في موكب وكأنهن في نزهة طقسية، يتمتمن بهدوء لبعضهن البعض بلغة تبدو وكأنها
حرير للأذنين. رجال يرتدون قبعات دائرية صغيرة ومنخفضة، عيونهم تلمع مثل الجمر في الغسق.
والأطفال، يركضون إلى الأبد، يضحكون إلى الأبد، ويتركون وراءهم آثارًا من الأصوات التي
تبقى في الهواء مثل رائحة البرتقال - فجأة، حادة، تختفي بنفس السرعة. لكنني كنت أعلم
أنهم رحلوا، وأن هذه الرؤى ليست سوى خيالات منسوجة من الاشتياق والوقت، من قلب مدينة
يتكسر تحت وطأة الذاكرة.
في أحلامي، تعود لي
مكناس إلى حالتها الطبيعية، وينبض الملاح بالحياة، وينبض بدفء غريب يتحدى الكلمات،
ويتحدى المنطق. هناك عمار وأوهانا، ويداهما مشغولتان بأدوات غير مرئية، يصلحان أحذية
لن تُلبس أبدًا، ويعملان على ضوء شمس لا ظل لها. يقف موشي الخياط في مدخل بيته، شبحًا
بعينين تراني حتى الآن، يقيس جسدي الشبح وكأنني ما زلت طفلاً. وفي مكان ما في ذلك الحلم،
أرى نفسي – مرتديا الكوستيم الرمادي الصغير، حيث تمتزج خطوطه السوداء بجلدي حتى أصبح
جزءًا من القماش، منسوجًا في خيوط الملاح نفسها.
ولكن عندما أستيقظ
أجد كل شيء قد اختفى. فالملاح صامت، وشمس الصباح تشرق على المدينة، فتلقي الضوء حيث
ينبغي أن تكون الظلال، وكأنها تحاول أن تكون رمزا لما تبقى. ومع ذلك فإن المدينة تحتفظ
بأسرارها، وتحتفظ بها قريبة مثل صناديق الكنوز. وبينما أبتعد، أحمل معي ثقل كل ما كان،
وهمهمة الأصوات الخافتة التي تتبعني، وهي جوقة لا تموت أبدًا. في مكان ما في ذلك العالم
غير المرئي، حيث يختلط الماضي بالحاضر، لا يزال أهل الملاح يتجولون، وخطواتهم تتردد
عبر الأحجار، وضحكاتهم لحن لا يسمعه إلا أولئك الذين يتذكرون.
0 التعليقات:
إرسال تعليق