يطن الليل مثل قيثارة متخفية تعزفها يد إله حزين غير مرئي. يلف العزلة نفسها بنسيج جلدي - منفى لا موطن له سوى صدى صامت لغراب يبتلع ضوء النجوم. تحدث عمر عن الوحدة وكأنها غرفة مليئة بالظلال، كل منها ممتد مثل همسات لا نهاية لها، ولكن هنا، في قلعة العقل، لم أعد متأكدًا من أن الظلال مجرد ظلال.
يزخر الهواء برموز غريبة: حلزون متعرج من الدخان يشبه علامة استفهام؛ أجنحة قزحية اللون لعثة تبدو وكأنها نوافذ صغيرة على زمن آخر. تحت قمر ياقوت، أشعر بمنفى الوجود في كل خيط من خيوط ثوب الليل غير المرئي. أنا بين أشخاص ما زالوا منفصلين، ضحكاتهم عبارة عن كوكبة من الأجراس البعيدة التي تتناثر ولكنها لا تصطدم.
الشوارع تتعرج إلى
أشكال مستحيلة، وتعود إلى نفسها مثل الأفكار التي لا يمكن الهروب منها. ساعة تبتسم،
أرقامها تتراجع إلى الوراء وكأنها تسخر من الخطية. في مكان ما بين الثانية وعقرب الساعة،
هناك مدينة من المشاعر غير المعلنة - مكان حيث تلد العزلة ذريتها السريالية: كمان أحمر
يبكي دون أن يعزف عليه؛ جرة زجاجية مليئة برائحة الحروف القديمة، رغم عدم وجود كلمات
باقية.
أمشي تحت مصابيح تومض
ليس بالضوء ولكن بشظايا من الأحلام المنسية. الوجوه التي أمر بها مغطاة بحجب من الضباب،
وملامحها مشوهة بمرايا عزلتي. عيون رجل تحمل مجرتين توأم تتدحرجان إلى داخل بعضهما
البعض؛ يدا رجل آخر تمسك باقة من الرمال الزرقاء التي تنزلق من بين أصابعه. لا أحد
يلاحظني، المنفى. لا أحد يرى الخنجر الذي أحمله - ليس في يدي ولكنه مدفون عميقًا في
طيات أفكاري.
العزلة - هذا المنفى
- ليست غيابًا بل وفرة، صخب من الوجود الغائب . تظل كلمات عمر معلقة في الهواء مثل
البندول الراقص. "العزلة نوع من المنفى"، همس، ولكن المنفى من ماذا؟ من
الآخرين أم من أنفسنا؟ انفتح السؤال، وألقى سربًا من العث الأسود الذي يرفرف نحو السماء،
ويندمج مع القمر الياقوتي حتى يصبح عينًا عمياء تنظر إلى العالم.
تتأرجح الأشجار في
انسجام، وتشكل أغصانها هيروغليفية غامضة ضد السماء. كل رمز يهمس بسر أستطيع فهمه تقريبًا.
يتجعد أحد الأغصان في شكل حلزوني، ويمتد آخر في خط متعرج، وفي مكان ما في تصادمهما
تكمن قصة القلب البشري - الهش، غير المنتظم، التواق إلى ما لا نهاية. تتلألأ الأوراق
بكلمات لم تُكتب أبدًا: *العزلة هي رحم الخلق.
أمرّ بنافورة يقفز
الماء فيها ويتجمد في الهواء، ويتحول إلى منحوتات من العبث. سمكة بأجنحة غراب. ثعبان
ملتف حول سلم لا يقود إلى أي مكان. الوجوه المنعكسة في الماء تتحول وتتكسر، لتصبح أقنعة
تذوب في أعماق السائل. ينضم وجهي إليهم، وينقسم إلى قطع لا نهاية لها حتى لم يعد ملكًا
لي. هل أنا المنفى، أم أنا المكان المنفي نفسه؟
يقطر القمر الياقوتي
ضوءًا منصهرًا على حقل من أزهار الزجاج. تلمع كل بتلة مثل سؤال بلا إجابة، وحوافها
حادة بما يكفي لسحب الدم من جسد الشبح. انحنيت لألمس واحدة فأجد يدي فارغة، وكأنها
لم تكن موجودة أبدًا. يتشقق الواقع ويتقشر مثل الطلاء القديم، ويكشف عن الآلية السريالية
وراءه. في هذه اللحظة، تصبح العزلة أكثر من مجرد منفى؛ تصبح بوابة - مدخلا إلى لغة
اللاوعي.
يظهر باب حيث لم يكن
موجودًا، إطاره مصنوع من عقارب الساعة والريش. أدخل الغرفة لأجد نفسي في غرفة يتساقط
منها الوقت مثل العسل اللزج من السقف. على الطاولة، يوجد كتاب صفحاته عبارة عن مرايا.
أرى نفسي فيها، لكن كل انعكاس هو شخص آخر. نسخة مني تبتسم وتحمل طائرًا في قفص؛ نسخة
أخرى تبكي وهم يحرقون خريطة؛ نسخة أخرى تجلس في صمت، وقد نُحِت قمر ياقوت على صدرها.
يبدو أنهم يقولون إن العزلة ليست غياب الآخرين بل هي تعددية الذات.
يصبح الهواء كثيفًا
- وزن الذكريات التي لم تعشها بعد. أمد يدي، ويظهر الخنجر من جديد، لكنه لم يعد من
الفولاذ؛ إنه مصنوع من الضوء. أغرسه في الهواء، وينشق العالم مثل الفاكهة. ما ينسكب
لا يمكن وصفه: ألوان بلا أسماء، أصوات بلا أصداء، عواطف غير مقيدة بالعقل. أدركت الآن
أن المنفى الذي تحدث عنه عمر ليس لعنة بل هدية - رحلة إلى متاهة ما لا يمكن التحدث
عنه.
عندما يتحطم القمر
الياقوتي أخيرًا، تتساقط شظاياه مثل الدموع على صحراء المرايا. كل شظية تحمل صورة،
شظية من حقيقة شاسعة للغاية بحيث لا يمكن فهمها. ألتقط واحدة وأرى نفسي أسير بين الزهور
الزجاجية، أبحث بلا نهاية عن شيء لا أستطيع تسميته. تستمر الوحدة، لكنها لم تعد تشبه
المنفى. تبدو وكأنها منزل - مكان حيث يصبح المستحيل حقيقيًا، حيث تذوب حدود الذات في
اللانهاية.
وبينما أمشي، يذوب
الخنجر في يدي في الليل، ويصبح واحدًا مع السيمفونية السريالية التي تطن تحت سطح كل
الأشياء. تحت القمر الياقوتي، الذي أصبح الآن مجرد ذكرى، لم أضيع ولم يتم العثور علي.
أنا ببساطة *أصبح*. في هذا، ينتهي المنفى، وتبدأ الرحلة من جديد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق