الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، يناير 05، 2025

"حلواني بين الجدران المترددة" نص سردي عبده حقي


بدأ الأمر بطابور طويل يتصاعد في الأفق، ثعبان حي يتنفس بوجوه عديدة ومظلمة وأقدام متعثرة. وقفت عند ذيل هذا الطابور الذي لا ينتهي، خيط في نسيج لم أستطع فك رموز أنماطه. فوق رأسي، كانت السماء بلون النحاس الباهت، وكان الهواء يعبق برائحة خفيفة من السكر المحروق والصدأ - حلاوة معدنية تلتصق بلساني. كنا جميعًا ننتظر شيئًا ما. أو شخصًا. لقد أفلتت مني التفاصيل.

كان الطابور تطوقه الهمسات. ليس الكلمات، ولكن شكلها، مثل العث غير المرئي الذي يفرك بشرتي. "كول ... الحلواني  قريب"، همس أحدهم. الحلواني  - ذاب الاسم في أذني مثل أغنية تذكرت نصفها . قالوا إنه صانع الحلوى، الشخص الذي يقيس الوقت في حبيبات السكر ويبني الأحلام من الرحيق المتبلور. ولكن لم يره أحد، فقط بقايا مخلفات أعماله: آثار حلوة هشة تركت لتذوب تحت المطر.

وأمامى، استدار رجل عجوز بوجه منحوت من لحاء الشجر وابتسم. قال بصوت أجش كالعسل: "سترى. سيعطيك الحلواني ما تحتاج إليه. ولكن ليس قبل أن تعطيه ما يريده".

سألته: "وماذا يريد؟".

اتسعت ابتسامة الرجل، وبدت أسنانه مثل شظايا الكوارتز الشاحب. "إن هذا يعتمد على مقدار ما أنت على استعداد لخسارته".

تفحصت يدي. هل كانتا دائمًا بهذا القدر من الشفافية؟ كانت الأوردة تحت بشرتي تنسج أنماطًا لا أتذكر أنني رأيتها من قبل، خطوط تنبض بإيقاع ليس خاصتي.

قادنا الطابور - لا، بل الموكب - عبر أنقاض مدينة بدت وكأنها تنمو حولنا بينما كنا نتحرك. كانت المباني والبيوت هشة، وكانت جدرانها تهمس بالأسرار بلغة أقدم من الأرض. لمست أحدها وشعرت به يرتجف تحت أطراف أصابعي. همس في المقابل: "العزلة اختيار".

ازدادت الهمسات ارتفاعًا كلما اقتربنا من المصدر، وهو هيكل مقبب بدا ضخمًا بشكل لا يصدق، وكأنه لا يحتوي على الفضاء فحسب بل والزمن نفسه. كانت جدرانه شفافة، تتلألأ بألوان بلا أسماء. رأيت وجوهًا مضغوطة على السطح، وتعبيراتها مجمدة في النشوة أو الرعب - لم أستطع التمييز بينهما. كانت وجوه أولئك الذين أتوا من قبل.

في الداخل، كان الهواء كثيفًا برائحة الكراميل المذاب وشيء أغمق من ذلك ، شيء مرير. جلس الحلواني على عرش من السكر المغزول، وجسده عبارة عن خليط من التناقضات. كانت عيناه من الذهب المنصهر، ويداه ملمس الأرض. كان يرتدي تاجًا من الزجاج المسنن، كل شظية تعكس جزءًا مختلفًا من العالم الخارجي.

"لماذا أتيت؟" كان صوته عبارة عن سيمفونية من التشظيات، حيث تنقسم كل كلمة وتتشكل في الهواء.

لم أعرف كيف أجيب. ابتلعني السؤال بالكامل، وشعرت بنفسي أتفكك. ترددت همسات الطابور في ذهني. "سيعطيك الحلواني ما تحتاجه".

"أنا هنا من أجل... البقاء؟" تمكنت من قول ذلك، وكان صوتي بالكاد أكثر من نفس.

كان ضحك الحلواني بمثابة عاصفة تندلع فوق سهل قاحل. "البقاء على قيد الحياة؟ أشار إلى الصف بالخارج، المرئي من خلال الجدران المتلألئة لغرفة عرشه. تحرك الناس مثل الدمى الآلية، خطواتهم محسوبة وميكانيكية.

قال: "لقد أخطأت في اعتبار البقاء على قيد الحياة ركودًا. ما تحتاجه هو الاختيار".

مد يده إلى طيات ردائه المرقعة وأخرج شيئًا بلوريًا - قلبًا، غرفه مليئة بالضوء السائل.

"أعطني ظلك، وهذا لك".

"ظلي؟"

"الجزء منك الذي يتمسك بالجدران، والذي يشكل حوافك. بدونه، لن يكون لديك حدود، ولا إحساس بمكان انتهائك وبداية العالم".

ترددت. ما هو الظل مقارنة بثقل وجودي؟ ولكن عندما مددت يدي لقبول القلب، شعرت بجدران غرفة العرش تضغط إلى الداخل، وهمسها يزداد حدة إلى صخب. "النظام عبارة عن متاهة"، صرخوا. "اختر بعناية، وإلا فلن تغادر أبدًا".

سحبت يدي للوراء. "سأحتفظ بظلي".

ضاقت عينا الحلواني  المنصهرتان. "إذن ستظل هنا، في الطابور، خيطًا في النسيج. هل هذا ما تريده؟"

نظرت مرة أخرى إلى الطابور، الممتد إلى ما لا نهاية. تحرك الناس للأمام، لكن يبدو أن أحدًا لم يصل. تشبثت ظلالهم بهم مثل السلاسل.

"لا"، قلت. "لقد اخترت المغادرة".

شق ضحك الحلواني  الهواء مرة أخرى. "هل تعتقد أن الأمر بهذه البساطة؟"

"ربما هو كذلك"، أجبت. وأدرت ظهري للعرش المصنوع من السكر المنسوج، على القلب البلوري والجدران الهامسة. تلاشى الطابور خلفي وأنا أمشي، وكل خطوة تدمر المسار الذي اتخذته.

عندما خرجت، لم تعد السماء نحاسية بل زرقاء شاحبة مرتجفة. لم يكن الهواء يبعث على أي رائحة على الإطلاق، وامتد ظلي طويلاً ورقيقًا أمامي. لم يكن ذلك خسارة؛ بل كان تذكيرًا.

كان صوت الحلواني  يتردد صداه في ذهني وأنا أسير. "العالم هو حلوياتك الآن. شكّله أو استهلكه".

وهكذا مشيت إلى العراء، لا أحمل معي سوى ظلي والطعم المر للاختيارات التي اتخذتها بعد فوات الأوان.

0 التعليقات: