الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، يناير 28، 2025

النموذج الاقتصادي للثقافة في المغرب: عبده حقي

ف


ي عالم مترابط وتشابكه العولمة الرقمية، تتجاوز الثقافة مفاهيمها التقليدية كالتعبيرات الفنية والحفاظ على التراث لتصبح محركًا ديناميكيًا للتقدم الاقتصادي والاجتماعي. إن المغرب، يتمتع بتنوعه الثقافي الغني وبنيته التحتية الرقمية المتنامية، بإمكانات هائلة لإعادة تعريف دور الثقافة في دفع عجلة التنمية حيث من خلال دمج التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي في إطار ثقافي، يمكن للبلاد تحويل مرجعياتها وقواعدها الثقافية إلى مساهمين مهمين في النمو الاقتصادي والتأثير على الصعيد العالمي.

إن الهوية الثقافية للمغرب، باعتبارها فسيفساء من التأثيرات العربية والأمازيغية والأندلسية والأفريقية، تنعكس في هندسة عمارتها وإيقاعات فولكلورها وتشكيلات حروفها وثراء مهرجاناتها. إن هذا التراث المتفرد والنادر في المنطقة العربية والبحر الأبيض المتوسط بل والعالم برمته يجذب ملايين السياح ويدعم صناعة الفنون والحرف اليدوية النابضة بالعراقة . ومع ذلك، لا تزال مساهمة القطاع الثقافي في الدينامية الاقتصادية متدنية كثيرا، حيث تمثل جزءًا ضئيلا من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بالمستويات العالمية. ولمعالجة هذه الفجوة، يحتاج المغرب إلى نموذج اقتصادي متجدد ينظر إلى الثقافة كمورد ديناميكي ريادي. ويمكن أن يؤدي تبني برامج في مجال التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي إلى الرقي بإمكانات القطاع وخلق مسارات جديدة لتحقيق طفرة تنموية محترمة.

إن التكنولوجيا الرقمية توفر أدوات قوية للحفاظ على الموارد الثقافية وتعزيزها وتحقيق العائدات الربحية منها. ومن الممكن أن توفر الجهود الرامية إلى رقمنة المتاحف والأرشيفات والمكتبات الجامعية والعامة إمكانية الولوج الافتراضي إلى تراث المغرب، والوصول إلى الجماهير في مختلف أنحاء العالم مع حماية القطع الأثرية والمصنفات العلمية والمواقع التاريخية. على سبيل المثال، من الممكن أن تعمل رحلات وأسفار الواقع الافتراضي للمعالم التاريخية الشهيرة على توسيع قطاع السياحة الثقافية دون المساس بسلامة ملامح هذه الفضاءات العظيمة.

وفي صناعة الحرف اليدوية، يمكن للمنصات الرقمية تمكين الحرفيين المغاربة من الوصول إلى الأسواق العالمية بشكل افتراضي مباشر، مما يقلل من الاعتماد على الوسطاء والسماسرة ويزيد من أرباحهم. ويمكن لمنصات التجارة الإلكترونية المصممة خصيصًا للحرف اليدوية المغربية أن تربط الحرفيين المهرة بالمستهلكين الدوليين، بدعم من شبكة لوجستية مصممة لتبسيط عملية الصادرات. وفي الوقت نفسه، يمكن للاستثمارات في إنشاء المحتوى الرقمي - سواء في الأفلام أو الموسيقى أو الأدب - أن تعزز الثقافة المغربية على نطاق عالمي. كما يمكن أن تعمل خدمات البث التي تعرض المحتوى المحلي كمنصات للتبادل الثقافي مع توليد الإيرادات.

يتمتع الذكاء الاصطناعي بالقدرة على إحداث ثورة في الصناعات الثقافية، من خلال تقديم حلول مبتكرة لتعزيز الكفاءة والتخصصات والإبداع. ويمكن للتحليلات المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن توفر رؤى عديدة حول أنماط الاستهلاك الثقافي، وتوجيه عملية اتخاذ القرار لصناع السياسات والمستثمرين. على سبيل المثال، يمكن للخوارزميات تحديد الاتجاهات الناشئة في السياحة أو التفضيلات الثقافية، مما يسمح بالتسويق المستهدف والتجارب المصممة خصيصًا لذلك.

إن المحتوى الثقافي المخصص هو مجال آخر حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يضيف قيمة هامة للغاية. فمن خلال الاستفادة منه في تنظيم تجارب المستخدم الفردية، يمكن للمنصات المغربية أن توصي بمنتوجات ثقافية مخصصة أو إحداث برامج سفر، مما يعمق مشاركة جمهور المتلقين والزوار. وبعيدًا عن دوره في التحليل والتخصيص، يمكن للذكاء الاصطناعي نفسه أن يصبح أداة إبداعية، مما يولد منتوجات ثقافية جديدة مستوحاة من تراث المغرب. على سبيل المثال، يمكن إنشاء فنون بصرية تستند إلى زخارف تقليدية أو مقطوعات موسيقية متأثرة بالأنماط المحلية، مما يقدم تعبيرات جديدة عن الهوية الثقافية.

ولكي يتسنى دمج التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي بشكل كامل في القطاع الثقافي، فإن المغرب يحتاج إلى استراتيجية متماسكة ومنذمجة. ويتعين على صناع القرارات السياسية أن يخلقوا قوانين تشجع ريادة الأعمال الثقافية والابتكارات. ومن الممكن أن تلعب الشراكات بين القطاعين العام والخاص دوراً محورياً في تمويل المشاريع الرقمية وتعزيز التعاون بين قطاعي التكنولوجيا والثقافة. ومن الممكن كذلك أن تعمل الحوافز المالية مثل المنح أو الإعفاءات الضريبية على تحفيز الاستثمار في التحول الرقمي للصناعات الثقافية.

إن بناء الرأس المال البشري أمر بالغ الأهمية حيث ويتعين على المؤسسات التعليمية أن تجمع بين الدراسات الثقافية والتدريب على الأدوات الرقمية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، لتجهيز جيل جديد من المهنيين لقيادة الاقتصاد الثقافي في المغرب. والجهود الرامية إلى توسيع البنية الأساسية الرقمية، وخاصة في المناطق القروية، ضرورية لضمان استفادة الحرفيين والممارسين في جميع أنحاء البلاد من التقدم التكنولوجي. ومن شأن توفير إمكانية الولوج إلى الإنترنت بأسعار معقولة وبرامج محو الأمية الرقمية أن تمكن من المشاركة العادلة في الاقتصاد الرقمي، مما يضمن عدم تخلف أي مواطن عن ركب التطور الذي تعيشه البلاد.

إن مراكز الابتكار المخصصة للقطاع الثقافي يمكن أن تعمل كمنصات للتجريب والتعاون. فمن خلال الجمع بين الفنانين والتقنيين ورجال الأعمال، يمكن لهذه المراكز احتضان الشركات الناشئة التي تركز على تطبيقات الذكاء الاصطناعي أو المنصات الرقمية التي تعمل على الرقي بالبصمة الثقافية للمغرب. ومن خلال تعزيز مثل هذه النظم البيئية، يمكننا أن نضع نفسنا في موقع الريادة في الاقتصاد الإبداعي على المستويين العربي والإفريقي.

وتتجاوز فوائد هذا المنهج النطاق الاقتصادي. فالتحول الرقمي للقطاع الثقافي من شأنه أن يحفز النمو الاقتصادي، ويخلق فرص العمل، ويرفع من مكانة المغرب العالمية. ومما لاشك فيه أن الاقتصاد الثقافي لديه القدرة على توليد إيرادات وعائدات كبيرة، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وزيادة صادرات المنتوجات الثقافية. كما يمكنه معالجة مشكلة البطالة بين الشباب من خلال خلق فرص في مجال إنشاء المحتوى الجاد والهادف ، والتسويق الرقمي، وتطوير التكنولوجيا.

لابد من معالجة بعض التحديات مثل محدودية الإلمام بالتقنيات الرقمية، ومقاومة التغيير بين الحرفيين التقليديين، والمخاوف بشأن الملكية الفكرية وخصوصية البيانات. ومن الضروري توفير برامج بناء القدرات التي تدعم الممارسين في تبني الأدوات الرقمية. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي للأطر القانونية القوية أن تحمي حقوق الملكية الفكرية وتعزز الاستخدام العادل للموارد الثقافية.

ولا شك أن اندماج الثقافة والتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي يوفر للمغرب فرصة تحويلية لإعادة تعريف نموذجه الاقتصادي الثقافي. ومن خلال الاستثمار في هذا التقاطع، يمكن للمملكة تحويل تراثها الغني إلى محرك مستدام للتنمية والتقدم.

0 التعليقات: