الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، يناير 09، 2025

"حلم الجذور المقلوبة" نص سردي عبده حقي


كانت معلقة، محتضنة في رحم السماء، همسة لم تولد بعد متشابكة مع الجذور. كانت خيوط الأرض ملتفة بحب حول أطرافها، وكأنها تخشى أن تنجرف بعيدًا إلى العدم أعلاه. كانت الأرض - البعيدة، المقلوبة، والمحاطة بشبكة جامحة من الأشجار المقتلعة - مرآة نسيت انعكاساتها. كان الأفق يمتد مثل ندبة عبر نسيج الوجود، يخيط السماء بالتربة بطبقة من اللامبالاة السريالية.

لم يكن اسمها منطوقًا بصوت عالٍ ولكنه كان يقيم في الصمت المتقطع لأوراق الخريف وهي تهجر أغصانها. لم يكن لديها أي ذكرى لكيفية وصولها إلى هنا، ملتفة مثل سر منسي، وجسدها يتأرجح في إيقاع نسيم شبحي. كان العالم من حولها مشبعًا بنور لم يأت من الشمس، بل بدا وكأنه ينبعث من الفضاء بين الأشياء - بين الجذور والأوراق وشظاياها.

لم تكن الجذور التي احتضنتها مجرد جذور؛ بل كانت تنبض بإيقاع قديم، نبض قلب أقدم من مفهوم الزمن. همست لها كل زائدة ملتوية، أسرارًا تنطق بلغات لا وجود لها إلا في الأحلام. أخبرتها عن شوق الأرض، ومحاولاتها العبثية لترسيخ نفسها في كون يصر على الحركة المستمرة. تحدثت عن النجوم التي سقطت وذابت في الأنهار، عن الجبال التي غنت للمحيطات بأصوات عميقة جدًا لا يمكن لآذان البشر أن تسمعها.

ومع ذلك، لم تقيدها الجذور - فقد احتضنتها، وكأنها تدرك أن الحرية لا تكمن في التحرر، بل في الاستسلام اللطيف لقوى أعظم من الذات. كانت بشرتها ترتعش حيث لامستها، وشعرت بطنين النصوص المزروعة تحت سطحها، كل منها تنتظر اللحظة المناسبة لتزدهر.

كانت الأوراق تطفو حولها بلا هدف، تتحدى منطق النزول أو الصعود. كانت تتحرك بهدف ولكن بدون اتجاه، مثل علامات الترقيم في جملة لم تُكتب بعد. لامست إحدى الأوراق خدها، فألقت نظرة خاطفة على ذكراها: غابة بعيدة حيث كانت الظلال ترقص ليس في غياب الضوء، ولكن كمظاهر لرغبات منسية. كانت ورقة أخرى، زمردية اللون مرتجفة، تحمل رائحة المطر الذي لم يسقط أبدًا، وقطراته معلقة في عالم من القرب.

أغمضت عينيها، وفي الظلام خلف جفونها، انكشف عالم جديد. كانت البذرة والتربة، والسؤال والإجابة. شعرت بنفسها تذوب في نسيج الجذور، وجوهرها ينجذب إلى شبكتها المتاهة. اندمج نبض قلبها مع نبضات قلبهم، وفجأة، كانت في كل مكان. كانت هي الأنهار الجوفية التي تهمس تحت الصحارى، والطحالب التي تشبثت بالجانب المنسي من الجبال، والفطريات التي تتوهج بفسفورية من عالم آخر في الكهوف التي لم يمسسها الضوء.

ومع ذلك، ظلت هي نفسها، جزيرة من الوعي تطفو في محيط من الذاكرة الجماعية. فتحت عينيها، وبكت السماء أزهارًا من النار والجليد. تغيرت الأرض في الأسفل؛ أصبحت الآن تتلألأ مثل انعكاس في الماء مضطربًا بيد غير مرئية. بدأت الأشجار المقلوبة تتفتح، وتفتح أزهارها بصوت التنهيدات، وتطلق روائح لا يمكن وصفها إلا برائحة الحنين إلى الماضي.

 

ثم لاحظت أن جسدها كان يتحول. بدأت أصابع قدميها تنبت جذورًا، نحيلة ومترددة في البداية، لكنها سرعان ما نمت بإلحاح بدا وكأنه القدر. امتدت، متشابكة مع الجذور فوقها، وخلقت جسرًا يمتد عبر الفجوة بين السماء والأرض. لقد تغيرت ذراعيها أيضًا؛ "لقد امتدت إلى الخارج، وأصابعها تطول إلى أغصان رقيقة ترتجف ترقبًا لثمرة.

لم تعد كائنًا منفردًا، ولم تعد محصورة في الحدود الهشة للجسد. لقد أصبحت شجرة، وعاءً لأحلام الأرض، وقناة لروحها المضطربة. لقد شعرت بثقل هذا التحول ليس كعبء، بل ككشف، وكشف عما كانت عليه دائمًا.

ومع اندماج جسدها مع الشبكة الشجرية، أصبحت مدركة تمامًا للنصوص التي تتدفق من خلالها. كل ورقة، كل جذر، كل خصلة تحمل جزءًا من الوجود - ذكرى لحظة، همسة فكرة، وميض احتمال. لقد حملت في داخلها أصداء العشاق الذين نقشوا أسماءهم على اللحاء، وأغاني الطيور التي بنت أعشاشها في ثنايا الأغصان، والصلوات الصامتة لأولئك الذين سعوا إلى العزاء تحت ظلال الأشجار.

بدأ العالم من حولها يذوب، ليس في الفوضى، بل في تناغم أعمق من أن يفهمه الإنسان. ذاب الأفق، وتوقفت ثنائية السماء والأرض عن الوجود. كانت في كل مكان وكل شيء - شجرة متجذرة في اللانهاية، وروح معلقة في الأبدية.

ومع ذلك، كانت لا تزال هي نفسها، شخصية هادئة ملتفة في أحضان جذور مقلوبة، تحلم بأحلام الأرض والسماء.

0 التعليقات: