حين قرأت ملخص كتاب «Homo Deus» «الإنسان الإله« لأول مرة، لم أكن أدرك أنني بصدد الإبحار في سرد فلسفي علمي عميق، يفتح أمامي أبوابًا موصدة على مستقبل الإنسان. لم يكن مجرد كتاب، بل خريطة فكرية لعالم لا يزال في طور التكوّن. في هذا الكتاب الذي يحمل عنوانًا مهيبًا "الإنسان الإله"، يقودنا يوفال نوح هراري عبر رحلة تتخطى أسوار التاريخ البشري نحو أفق "ما بعد الإنسان"، حيث تتحول البيولوجيا إلى برمجة، ويصبح الذكاء الاصطناعي أكثر فهمًا لنا من أنفسنا.
كقارئ مغربي، قادم
من أرضٍ تحتضن تعايش الصوفي والعقلاني، وجدل التراث والتحديث، وجدت نفسي أمام خطاب
مختلف، جريء، وربما استفزازي، يتحدى الثوابت الكبرى: الدين، الأخلاق، السلطة، والهوية
البشرية ذاتها. تساءلت في نفسي: هل نحن حقًا نخطو بثقة نحو عهدٍ يصبح فيه الإنسان إلهًا،
أم أننا نعيش وهم السيطرة في زمن اللايقين؟
في هذا الكتاب، يقدم
هراري ثلاث سرديات كبرى حكمت التاريخ البشري: الجوع، الوباء، والحرب. ويرى أننا، كبشر،
قد نجحنا إلى حد بعيد في السيطرة على هذه التهديدات، ما يفتح المجال أمام أهداف جديدة:
الخلود، السعادة، والارتقاء إلى مرتبة الآلهة عبر التكنولوجيا والبيانات. لكن هل هذا
الطموح مشروع؟ وهل له تبعات أخلاقية؟ بل، كيف سيتأقلم الإنسان المغربي، الموزع بين
الحاضر التقليدي والحلم التكنولوجي، مع هذا المسار الجديد؟
لقد أدهشني ذكاء المؤلف
في الجمع بين السرد التاريخي والتحليل الفلسفي. فهو لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يغوص
في أعماقها، محللًا بجرأة كيف أن العقائد، من الأديان إلى الإيديولوجيات الحديثة، ليست
سوى قصص متخيلة أتقن الإنسان تصديقها. هنا، شعرت أنني أقف على حافة السؤال الوجودي:
إذا كانت القيم والمعتقدات الكبرى مجرّد سرديات، فماذا تبقّى من الإنسان؟
الجانب الذي أثار فيّ
تأملًا عميقًا هو تحليله لنشأة "الدين الإنساني"، الذي يتمحور حول تقديس
الفرد وحقوقه. في نظره، هذا الدين الجديد الذي بزغ مع الحداثة، بدأ يتزعزع أمام زحف
الذكاء الاصطناعي والخوارزميات. فحين تصبح الآلة أقدر من الطبيب على تشخيص المرض، أو
من الشاعر على نظم القصيدة، ماذا يتبقى من فرادة الإنسان؟
وهنا، وجدت نفسي أفكر
في النظام التربوي المغربي، في جامعاتنا، في إعلامنا، بل في فقهائنا ودعاتنا: هل نحن
نناقش هذه الأسئلة؟ هل نعدّ أبناءنا لعصر قد تتفوق فيه الخوارزمية على العقل الفقهي،
وقد تصبح فيه الآلة أكثر عدلًا من الحاكم؟ وهل ما زالت مناهجنا قادرة على تخريج إنسان
لا يكتفي بالاستهلاك الرقمي، بل يطرح الأسئلة الأخلاقية حول الذكاء الاصطناعي والبيولوجيا
التركيبية والهيمنة السيبرانية؟
لقد نجح هراري في جعل
القارئ يعيش التوتر الدائم بين الإعجاب والانزعاج. فهو لا يمنحنا أجوبة سهلة، بل يتركنا
نتقلب في حيرة وجودية. في الفصل الخاص بـ"البيانات"، شعرت أن الكاتب يسحب
البساط من تحت كل ما تعلمناه عن "الإرادة الحرة". الخوارزميات، كما يقول،
قادرة على معرفة رغباتنا قبل أن نعي بها، بل قد تقرر بدلاً منا. وهنا تذكرت كيف أن
شبكات التواصل الاجتماعي صارت اليوم تسيّر عقولًا، وتخلق حروبًا، وتُصنّع أذواقًا،
بل وحتى انتفاضات.
في كل صفحة، كنت أرى
انعكاسًا للعالم المغربي بطريقة غير مباشرة: حين يتحدث عن الدول التي لا تواكب التطور
البيوتكنولوجي أو الرقمي، فهمها سيكون التبعية، وربما الاختفاء الثقافي. أليس هذا نذيرًا
لنا؟ أليست هذه دعوة صريحة لأن ننخرط، كأمة، لا فقط في استهلاك التكنولوجيا، بل في
التفكير الفلسفي حولها؟ أن نطرح أسئلتنا نحن، بلغتنا نحن، من موقعنا في الجنوب لا من
هامش الشمال.
رغم كل هذا، لا يخلو
الكتاب من مواطن استفزاز، بل أحيانًا من نزعة "تنبؤية" شبه علموية، يلبس
فيها الكاتب رداء النبي بدل المؤرخ. وهذا ما جعلني أتعامل مع الكتاب بحذر، كما أتعامل
مع نبوءات المستقبل: لا أرفضها، ولكن لا أركن لها بالكامل. فالإنسان، في نهاية المطاف،
لا يُختصر في خوارزمية، ولا يُحاكم بمقياس واحد، بل هو كائن مقاوم، قادر على المفاجأة.
في ختام رحلتي مع
كتاب Homo Deus،
خرجت بسؤال أكثر من جواب: ما الذي نريده نحن، أبناء هذا الجنوب المتعدد، من التكنولوجيا؟
أهو تقليد أعمى لمسار مرسوم من وادي السيليكون؟ أم أننا سنصوغ "إنساننا الإله"
على مقاسنا، بهويتنا، بتجربتنا الوجودية؟
إنه كتاب يجب أن يُقرأ
أكثر من مرة، ويُناقش في المقاهي، وفي المساجد، وفي الجامعات. كتاب يحرضنا على التفكير،
ويدعونا لأن نكون فاعلين في سردية المستقبل، لا متفرجين على أطلاله.
0 التعليقات:
إرسال تعليق