الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، مايو 30، 2025

تهريب أموال الجزائر إلى فرنسا بين التواطؤ والتجميد: عبده حقي


في سابقة سياسية غير مألوفة، بدأت فرنسا، على غير عادتها، تلوّح بتجميد أموال وعقارات تعود إلى عشرين شخصية من كبار المسؤولين الجزائريين، مقربة من دوائر القرار وعلى رأسها المحيط المباشر للرئيس عبد المجيد تبون. إن هذه الخطوة التي بدت للوهلة الأولى كما لو كانت محاولة استعادة نفوذ سياسي، تخفي في طياتها تراكماً طويلاً من العلاقات الملتبسة، حيث تداخلت المصالح بين النخب الحاكمة في الجزائر والدولة الفرنسية على نحو جعل من باريس خزينة آمنة لثروات "جمهورية الريع" الجزائرية.

ووفق ما كشفته مصادر إعلامية وتحقيقات استقصائية متعددة، فإن ما لا يقل عن «801 شخصية جزائرية نافذة» بين مسؤولين، عسكريين، وزوجات وأبناء نافذين يمتلكون أصولاً مالية وعقارية داخل التراب الفرنسي. من شقق فاخرة في الدوائر الباريسية الراقية إلى حسابات مصرفية ضخمة تتوزع بين بنوك باريس ونيس ومرسيليا، تم نسج شبكة ممتدة من الاستثمارات المشبوهة، تحت غطاء "الاستقرار العائلي" و"العلاقات الثنائية".

لكن التطور اللافت في هذا الملف، لم يكن فقط في حجم الثروات ولا في كثافة الأسماء، بل في نغمة الخطاب الفرنسي المستجد، الذي خرج من دائرة التغاضي إلى دائرة التهديد بالتجميد، مدفوعاً ربما بتغير في الحسابات الجيوسياسية، أو برغبة باريس في الضغط على النظام الجزائري في ملفات أمنية أو طاقية معينة، خصوصاً في ظل توتر العلاقات الأوروبية المغاربية في السنوات الأخيرة.

وهنا، يطرح المراقبون تساؤلاً مشروعاً: «هل كانت فرنسا ضحية لهذه التدفقات المالية المشبوهة؟ أم أنها شريك في التستر، بل ومسهّلة لتبييض أموال النخبة الجزائرية مقابل صفقات سياسية واقتصادية؟»

الجواب، كما ترجّحه المعطيات، لا يميل إلى براءة باريس. على العكس، تشير الأدلة إلى أن فرنسا ظلت لعقود تسمح، بل وتُيسّر، دخول الأموال الجزائرية الناتجة عن الفساد، مدفوعة برغبتها في الحفاظ على نفوذها الاستراتيجي في مستعمرتها السابقة.

إن التحالف غير المعلن بين جنرالات الجزائر ورجال الدولة الفرنسية، كان بمثابة "التواطؤ المصلحي"، بحيث وجدت الطبقة الحاكمة الجزائرية ملاذاً اقتصادياً آمناً، فيما وجدت فرنسا في هذه الأموال ما يغذي سوقها العقاري والمصرفي ويؤمّن مصالحها في المنطقة. أما المواطن الجزائري، فكان الضحية الصامتة لهذا النزيف المستمر: يرى وطنه يُنهب، وثرواته تُهرّب، ثم تُستثمر بعيداً عن عيون العدالة والمحاسبة.

ولعل ما يجعل هذه القضية أكثر إيلاماً، هو أنها تكشف ما يعرفه الجميع ويصمت عنه الجميع: النخب الجزائرية لا تثق ببلدها، ولا تستثمر فيه، بل تسارع إلى تحويل أموالها إلى الخارج، خشية سقوط النظام أو اضطرابات داخلية أو حتى انكشاف ملفات الفساد. وفي هذا السياق، يصبح "امتلاك شقة في باريس" ليس رفاهية، بل تأمين سياسي، وجواز نجاة، وربما بوابة "خروج اضطراري" في اللحظة التي تنهار فيها المعادلة الهشة بين السلطة والشعب.

التهديد الفرنسي الأخير بتجميد هذه الأصول لا يمكن قراءته إلا في سياق التوترات العميقة التي باتت تطبع العلاقات بين باريس والجزائر، خاصة بعد طرد السفير الفرنسي، والتقارب الجزائري مع موسكو وبكين، والتباعد في المواقف من ملفات الساحل والصحراء وليبيا. إنها إذاً رسالة سياسية مضمّنة: المال مقابل الولاء، أو التجميد مقابل "التطبيع الجديد".

لكن مهما كانت الحسابات الدولية، فإن ما يجب أن يقال بوضوح هو أن هذه الأموال، وهذه العقارات، هي ملك للشعب الجزائري، ويجب أن تعود إليه. ومثلما بدأت بعض الدول الأوروبية في ملاحقة أموال النخب الفاسدة القادمة من روسيا وسوريا ولبنان، فإن الأموال الجزائرية المهربة تستحق آلية دولية لاسترجاعها، لا فقط لتجميدها واستخدامها كورقة ضغط في يد دولة استعمارية سابقة.

في نهاية المطاف، ستبقى الحقيقة المرة واحدة: «ثروة الجزائر في الخارج هي نتيجة فساد الداخل، وفرنسا ليست بريئة من هذا الفساد، بل كانت، ولا تزال، جزءاً من بنيته العميقة».

0 التعليقات: