الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، مايو 30، 2025

سوريا الحرة تفتح سفارة المغرب وتغلق مكتب بوليساريو: عبده حقي


في تحول عربي لافت يعكس تغييراً عميقاً في موازين التحالفات الإقليمية، أعلنت وزارة الخارجية السورية رسمياً إغلاق مكتب جبهة "البوليساريو" في دمشق ، في خطوة وُصفت بأنها مؤشر على نهاية عقود من التوتر الدبلوماسي والسياسي بين المغرب وسوريا.

إن هذا التحول الذي حدث بعد مسار طويل من القطيعة والعداء الإيديولوجي بين البلدين امتد منذ ستينات القرن الماضي، حين تقاطعت سياسات القومية العربية مع رهانات الحرب الباردة والانقسامات الجيوسياسية في المنطقة المغاربية والمشرق العربي.

في عهد الراحلين الملك الحسن الثاني والرئيس السوري حافظ الأسد، شهدت العلاقات المغربية السورية توتراً معقدا ومزمناً بلغ ذروته مع إعلان دعم دمشق الصريح لجماعة الانفصاليين في الصحراء المغربية. لم يكن الأمر مجرد موقف رمزي بل ترجمة عملية لتحالف استراتيجي جمع النظام السوري بنظيريه الليبي والجزائري، الداعمين الأساسيين لما يسمى "الجمهورية الصحراوية"، وراعياً قوياً لجبهة البوليساريو على المستويين المالي والعسكري والدبلوماسي. وقد اتضح هذا التحالف في المحافل الدولية، حيث دأبت سوريا على التصويت دائما ضد المقترحات المغربية في الأمم المتحدة، وساهمت في توسيع نفوذ الجبهة داخل المنظمات الإقليمية المناوئة للوحدة الترابية المغربية.

الثورة السورية التي اندلعت منذ 2011 وبلغت ذروتها قبل شهور قليلة هزّت أركان الدولة وأضعفت مؤسساتها الديكتاتورية ، ثم ما لبث النظام أن فقد السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد. في خضم هذا الانهيار، لجأ الرئيس بشار الأسد إلى روسيا بحثاً عن الحماية واللجوء النهائي ، وفي تحوّل دراماتيكي أعلنت المعارضة السورية ، بدعم من أطراف إقليمية، عن تشكيل حكومة انتقالية، عيّنت الدكتور أحمد الشرع رئيساً مؤقتاً للجمهورية الجديدة .

لقد تبنّت الحكومة الجديدة سياسة خارجية واقعية تنأى بنفسها عن تدخلات النظام السابق في قضايا لا تمت بصلة مباشرة للمصلحة السورية، وكان من أوائل الإجراءات الرمزية الكبرى قرار طرد جبهة البوليساريو من دمشق. وقد وُصف القرار بأنه "إعادة تموضع سيادي يعيد لسوريا حيادها التقليدي ويقربها من محيطها العربي الطبيعي".

إن هذا التغير لاقى ترحيباً فورياً من الرباط، التي سارعت إلى إرسال بعثة دبلوماسية تقنية إلى العاصمة السورية، لبحث ترتيبات إعادة فتح سفارتها المغلقة منذ سنوات. وتضمنت الزيارة معاينة مشتركة مع الجانب السوري لإغلاق مكتب البوليساريو نهائياً، وهو ما أُنجز فعلاً بإشراف مباشر من ممثلين عن وزارة الخارجية في الحكومة السورية الجديدة.

هذه الخطوة السياسية لا يمكن عزلها عن سياق أوسع من إعادة تشكل التحالفات في المنطقة. فالمغرب، الذي عزّز حضوره في القارة الإفريقية ودعّم مواقعه في المنتديات الدولية، بات شريكاً ذا مصداقية لعدد من الدول التي كانت في وقت سابق تساند جبهة البوليساريو. وسوريا الجديدة، الساعية إلى الخروج من عزلتها، وجدت في المغرب بوابة لاستعادة علاقاتها الطبيعية مع البلدان العربية، خصوصاً في ظل إشارات إيجابية من الجامعة العربية حول إعادة إدماج سوريا في النظام العربي الرسمي بعد سنوات من الجمود.

أكثر من ذلك، فإن العودة المغربية إلى دمشق لا تقتصر على بعد رمزي أو سياسي، بل تتخذ أبعاداً اقتصادية وثقافية وتقنية واعدة. فقد أبدت السلطات السورية الجديدة رغبة في الاستفادة من التجربة المغربية في مجالات التعمير والبنية التحتية، خاصة في ظل الحاجة الملحة لإعادة إعمار ما دمرته الحرب. كما أن هناك إشارات إلى اهتمام مغربي بتوسيع حضوره في السوق السورية، سواء في قطاع الصناعات الغذائية أو في مجال الأدوية والبناء، وهو ما يجري التنسيق بشأنه من خلال لقاءات تمهيدية بين رجال الأعمال من البلدين.

في المقابل، يستفيد المغرب من بوابة جديدة نحو المشرق العربي ومن ورقة دبلوماسية قوية يمكن أن تعزز موقعه التفاوضي في ملف الصحراء المغربية، خاصة وأن انسحاب سوريا من دائرة الدول الداعمة للبوليساريو يمثل ضربة موجعة للطرح الانفصالي على المستوى الدولي.

وإذا كانت هذه التطورات توحي ببداية صفحة جديدة، فإنها في الواقع تؤكد حقيقة قديمة مفادها أن التحالفات المبنية على العداء للمغرب أو على أوهام الانفصال لا ولن تدوم طويلاً. وما جرى في دمشق يوازيه في بلدان أخرى كانت إلى وقت قريب تعتبر من الحلفاء التقليديين للبوليساريو، قبل أن تعيد النظر في مواقفها تحت ضغط الحقائق الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية المتغيرة.

هكذا، من رماد القطيعة تنبعث اليوم دينامية جديدة بين الرباط ودمشق، عنوانها الواقعية السياسية والمصلحة المتبادلة، ومرتكزها الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية. وما بين الماضي الذي كان، والحاضر الذي يتشكل، يبدو أن الزمن قد حان لتقريب المسافات، لا لتوسيع الهوات بين البلدان العربية الشقيقة.

0 التعليقات: