الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، مايو 12، 2025

العصف الرقمي ومصير الخبر المحلي: شهادتي من قلب العتمة: عبده حقي


في زمنٍ تتسابق فيه الخوارزميات إلى إشباع حاجات القارئ المعولم، وجدتُ نفسي أراقب ما يشبه الانقراض البطيء للأصوات المحلية التي كانت، ذات مساءات مغربية، تنفخ في نسيج المدينة حرارةً ودفئًا، كما تنفخ الربابة روحًا في صمت السهول. نعم، كنتُ شاهداً على ذلك التحول المزلزل الذي طغى فيه الإعلام الرقمي على الصحافة المحلية، دون أن ينتبه كثيرون إلى ما تخلّفه هذه العاصفة من ركام ثقافي ومعلوماتي خلفها.

ليس الأمر متعلقًا هنا فقط بتقنيات النشر أو سرعة الوصول، بل بتحوّل جذري في مفهوم "المحلية" ذاته. حين بدأت المنصات الإخبارية الرقمية تزحف نحو القارئ المغربي من كل صوب، كان ذلك مدعوما بوهم "الديمقراطية الإعلامية"، لكنّ هذه الديمقراطية الرقمية سرعان ما كشفت عن قناعها: خوارزميات جشعة، عناوين مُعلّبة، ومحتوى سريع الذوبان. هذا ما أشار إليه «نيكولاس كار» في كتابه "The Shallows"، حيث نبّه إلى أن الإنترنت لا يعيد تشكيل طريقتنا في القراءة فحسب، بل يعيد تشكيل أدمغتنا، ومِن ثم علاقتنا بالعالم.

الصحافة المحلية التي كانت تُنقّب في مشاكل الحي، تتابع قرارات البلدية، وترصد نبض الأسواق، أصبحت فجأة ضحيةً لمعادلة لا تعترف إلا بعدد النقرات وعدد المشاركات. فوسائل الإعلام الصغيرة، تلك التي لا تملك ميزانيات لإعلانات ممولة على فيسبوك أو طواقم خبراء في تحسين محركات البحث (SEO)، باتت خارج المنافسة. والأسوأ من ذلك، أن الأخبار التي كانت تصدر من طنجة أو آسفي أو الراشيدية بخصوص قضايا تهم السكان مباشرةً، لم تعد تُقرأ إلا إذا أُعيد تدويرها في شكل فضيحة أو عنوان مثير.

وهنا، تظهر أزمة مضاعفة: انحسار في تمويل الصحافة المحلية، وانحراف في مضامينها نحو الإثارة بدل الخدمة العامة. لقد وثّقت منظمة «مراسلون بلا حدود» في تقاريرها الأخيرة هذا الانحدار، محذّرة من أن الرقمنة السريعة، دون دعم مؤسساتي وإرادة سياسية واضحة، ستُفرغ المشهد الإعلامي من جوهره الديمقراطي. الأمر لم يعد مجرد معركة تقنية، بل هو صراع حول من يملك الحق في رواية القصة.

في هذا السياق، لا بد من الاعتراف بأننا ـ كصحفيين ومهتمين بالشأن الإعلامي في المغرب ـ لم نتعامل بجدية كافية مع هذا التهديد. فالتحول إلى الرقمية كان يُنظر إليه باعتباره خلاصًا من قيد الورق، لا كقفزة نحو اقتصاد خاضع لسلطة غير مرئية تُحدّد ما يُقرأ وما يُنسى. المفارقة أن هذا التحول جعل الأخبار المحلية التي كانت تسير على قدمين في الأسواق القديمة تُصبح مرهونة بمزاج خوارزمية تُفضّل ما هو عالمي، استهلاكي، وقابل للتداول اللحظي.

لقد أصبحت الأخبار المحلية، بكل ما تحمله من تعقيد، هامشًا في الحكاية الرقمية الكبرى. حين أكتب عن اختفاء دوريات الثقافة في مدينة صغيرة، أو عن إغلاق جريدة محلية كانت تصدر بصعوبة في مراكش، أشعر وكأنني أرثي شجرة عريقة اقتُلعت أمام أعيننا ولم نجد لها مكانًا في "الغابة الذكية" التي بنتها شركات السيليكون فالي. وكأن الوطن، شيئًا فشيئًا، يُكتب من الخارج، يُعلّق من الخارج، ويُفهم من الخارج.

هناك أمل، لكنه ليس بسيطًا ولا آنياً. علينا أن نعيد التفكير في النموذج الاقتصادي للصحافة المحلية، وأن نُطالب بتمويل عمومي واضح ومشروط بالجودة والاستقلالية، كما تفعل بعض الدول الإسكندنافية. علينا أن ندرّس الصحافة المحلية بوصفها مكونًا من مكونات الذاكرة الجماعية، لا مجرد تمرين صحفي. وأن نُدخل مساقًا في كليات الإعلام عن "الحساسية المحلية" في العمل الصحفي، حتى لا يُختزل الوطن في العاصمة، أو في ما يُتداول عبر تويتر.

ختامًا، إنني أدرك أن الحديث عن "الخبر المحلي" في عصر الميتافيرس قد يبدو متأخرًا، أو حتى دون طائل. لكنني أؤمن ـ كما آمنتُ دومًا ـ بأن صوتًا يخرج من زقاق في فاس أو من ميناء صغير في الحسيمة، قادر أن يُحرّك ما لا تستطيع آلاف المشاركات الرقمية أن

تحرّكه: الوعي بالجذور، وبأن الحكاية الوطنية لا تُكتب في مكانٍ واحد، بل في أصوات عديدة، لا بد أن نعيد إليها حقها في الحياة.

0 التعليقات: