الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، يونيو 05، 2025

شعرية السمع والبصر في زمن الوسائط الرقمية: عبده حقي


منذ أن بدأ الإنسان يحوّل الصوت إلى كتابة، والصورة إلى رمز، وهو ينسج سردياته من خيوط حسية تتعدى المعنى المجرّد إلى التجربة الشاملة. واليوم، وقد انتقلنا من الحرف إلى البكسل، ومن الورق إلى الشاشة، أجدني، ككاتب مغربي يعيش هذا التحول العميق، أمام معطى جديد: الوسيط لم يعد مجرد حاملٍ للمعنى، بل أصبح هو ذاته مولّداً للمعنى، وشريكاً في عملية التلقي والتأويل.

في هذا السياق، تبرز الوسائط الرقمية كحقل خصب تنمو فيه أشكال جديدة من الشعرية، تتكامل فيها الحواس: فالصوت لم يعد مكملاً للصورة، ولا الصورة مرآة للكلمة، بل صار التفاعل بينهما هو جوهر العمل الفني. هذا ما أسميه بـ"شعرية السمع والبصر" (Audiovisual Poetics)، وهي تجربة جمالية تستند إلى التوازي، والانزياح، والتراكب بين عناصر النص الرقمي.

الوسيط الرقمي بطبيعته متعدد الطبقات: النص، الصوت، الصورة، التفاعل الزمني، وحتى الخوارزمية التي تُنتج السرد نفسه، جميعها تشكل بنية النص. من هنا، لم يعد من الممكن الحديث عن "المؤلف" أو "القارئ" وفق المفاهيم التقليدية. لقد أصبح القارئ مشاركاً حقيقياً، يتنقل بين الروابط كما يتنقل بين طبقات الذات. وكأن النص الرقمي لا يُقرأ بقدر ما يُعاش.

أحد أبرز الأمثلة على هذه التحولات هو ما أنجزه الباحث «جيمس بول جي

James Paul Gee   في دراسته لألعاب الفيديو كأدب تفاعلي، حيث يرى أن السرد الرقمي لا يكتمل إلا بتدخل المستخدم، وأن الصوت والصورة هما أدوات توجيه للمعنى لا تقل أهمية عن اللغة المكتوبة. كما يمكن الإشارة إلى أعمال «جان بيير بالب

Jean-Pierre Balpe  الذي يعد من أوائل من مزجوا بين البرمجة والشعر، مقدماً قصائد توليدية يتغيّر فيها المعنى تبعاً للمدخلات الصوتية أو البصرية.

في المغرب، حيث تمتزج الثقافة الشفاهية بالصورة الجماعية، يشكّل هذا المجال فرصة لإعادة إحياء الذاكرة الجمعية عبر أدوات معاصرة. فمن خلال توظيف أرشيفات سمعية بصرية رقمية، يمكن بناء نصوص تعيد تشكيل الهوية من خلال الصوت واللون والحركة، كما يظهر في بعض التجارب الناشئة في فن الفيديو أو الشعر الرقمي في المغرب الكبير.

ولعل أخطر ما في هذه الشعرية الجديدة، هو قدرتها على التأثير النفسي المباشر، فهي لا تمر عبر العقل وحده، بل تخاطب الجهاز العصبي بأكمله. الصوت، بإيقاعه وتواتره، يخلق توتراً درامياً لا يمكن للنص المطبوع أن يضاهيه. أما الصورة، فتختزل في لحظة واحدة ما قد يحتاج الكاتب إلى فقرات كاملة لشرحه. حين يُدمج هذان العنصران بذكاء في عمل رقمي، يصبح النص شحنة حسية كاملة، تجربة استغراقية (immersive) تضاهي الأحلام أو الذكريات.

من الناحية الفلسفية، فإن هذا التحول يعيدنا إلى مفهوم "المحسوس" عند «موريس ميرلو-بونتي»، الذي يرى في الإدراك الحسي بوابة للمعنى لا تقل أهمية عن التفكير المجرد. فالصوت ليس مجرد حامل للمعلومة، بل شكل من أشكال الحضور. وكذلك الصورة، ليست مجرد مرآة للواقع، بل تشكيل جديد له.

إننا نعيش لحظة يتقاطع فيها الإبداع الأدبي مع التقنية، والفن مع البرمجة، والحواس مع الذكاء الاصطناعي. وبين هذا كله، ينبثق سؤال جوهري: كيف نحافظ على الشعرية في زمن الأتمتة؟ كيف نُبقي على الإنسان داخل النصوص التي تُنتجها الخوارزميات؟ هل يمكن أن يكون للآلة إحساس بالصوت، وبالمعنى؟

تجربتي الشخصية في التفاعل مع وسائط رقمية متعددة جعلتني أُدرك أن الكتابة الرقمية لا تلغي الشعر، بل تعيد تعريفه. لم أعد أبحث عن الجملة الموزونة وحدها، بل عن الانسجام بين صوت الخط، وضوء الخلفية، وإيقاع التنقّل بين الأسطر. لقد أصبح النص الرقمي سيمفونية حواس، لا مجرد سلسلة من المعاني.

وفي الختام، أجد أن شعرية السمع والبصر ليست مجرّد ظاهرة عابرة في الأدب الرقمي، بل هي مستقبل الكتابة ذاتها. الكتابة التي ستُسمع وتُرى وتُلمس، لا فقط تُقرأ. كتابة تُخاطب الإنسان كله، بحواسه، وتاريخه، وتطلعه إلى معنى لا يُختزل في كلمات، بل يتفتّح بين الصوت والصورة كزهرة افتراضية في حديقة من ضوء.

0 التعليقات: