الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 09، 2025

عبور النص إلى الفضاء الرقمي: من الحبر إلى الشيفرة: عبده حقي


لقد عشتُ تحوّل النص الأدبي من صفحة الورق إلى شاشة الحاسوب كما لو أنني أراقب كائناً حياً يغيّر جلده في وضح النهار. إن هذا التحوّل ليس مجرد استبدال وسيط بآخر، بل هو إعادة صياغة عميقة لمفهوم الأدب نفسه، حيث لم تعد الحروف سجينة الحبر، بل أصبحت سلاسل من الشيفرات الرقمية، قابلة للتلاعب، وإعادة التركيب، والتفاعل مع القارئ في زمن حقيقي. إن ما تسميه ن. كاثرين هايلز في كتابها

«Electronic Literature: New Horizons for the Literary» بـ"التكنونصوص" (Technotexts) ليس سوى إعلان عن ميلاد نوع أدبي يعي بنيته المادية، ويجعلها جزءاً من خطابه الجمالي.

لقد أدركتُ مع الوقت أن النص الرقمي لا يُقرأ فحسب، بل يُختبر. إنه فضاء حيّ تتجاور فيه الكلمة مع الصورة والصوت والحركة، حيث يتشكّل المعنى من تفاعل هذه العناصر جميعاً. وأمام هذا المشهد الجديد، أجد نفسي أتساءل: هل ما زلنا نكتب نصوصاً، أم نصمّم تجارب سردية؟ في الأعمال التفاعلية التي اطّلعت عليها، مثل مشروع

«The Last Performance»  للكاتب براين كيم ستيفانز، لا يقتصر فعل القراءة على متابعة جمل متتالية، بل يتحوّل القارئ إلى شريك في إنتاج النص، عبر مسارات غير خطّية تعيد ترتيب الأحداث وفق خياراته.

إن التحوّل الرقمي فرض على الكاتب أن يتعامل مع الشيفرة البرمجية كما يتعامل مع اللغة، بحيث تصبح لغات البرمجة مثل HTML وJavaScript  جزءاً من الأدوات الإبداعية. وكما يشير ليف مانوفيتش في «The Language of New Media، فإن الثقافة الرقمية لم تكتفِ بتحويل النصوص الورقية إلى نسخ إلكترونية، بل أعادت تعريف البنية السردية نفسها، من خلال دينامية البيانات والقدرة على ربط وحدات نصية متباعدة عبر الروابط التشعبية.

لقد كان حلم بورخيس بمكتبة كونية لا نهائية ضرباً من الخيال في زمنه، أما اليوم، فإن البنية التحتية للشبكة العالمية جعلت هذا الحلم أقرب إلى التجسيد، ولكن بشكل أكثر سيولة وتشتتاً. النص الرقمي لا يكتفي بأن يكون في متناول الجميع، بل يفرض نفسه في كل لحظة عبر التدفق المستمر للمحتوى، مما يطرح سؤالاً ملحّاً حول حدود المعنى وسط هذا الفيضان.

 

ومن المدهش أن التكنونصوص قد أعادت أيضاً صياغة مفهوم المؤلف. فبدلاً من "الكاتب الفرد" الذي يُنتج نصاً مكتمل البنية، أصبحنا أمام بيئة إنتاج جماعي، حيث يشارك القرّاء والمبرمجون والمصمّمون في تشكيل العمل. وهذا ما لاحظته في تجارب مثل «Inanimate Alice " أليس الجامدة " حيث يمتزج النص مع الفيديو والبرمجة والرسوم التفاعلية، ليخلق عالماً سردياً متعدد الأبعاد، لا يمكن فصله عن وسيلته الرقمية.

لكنني أعي تماماً أن هذا التحوّل ليس خالياً من التحديات. فالنص الرقمي، برغم غناه التفاعلي، يواجه خطر الزوال مع تغيّر المنصات والتقنيات، كما حذّرت آن موريس في مقالاتها حول أرشفة الأدب الإلكتروني. إن هشاشة الوسائط الرقمية تعني أن كثيراً من الأعمال قد تُفقد إذا لم تُحفظ بصيغ محدثة باستمرار. وهذا يضعنا أمام مفارقة: في الوقت الذي يمنح فيه الوسيط الرقمي للنص حياة ديناميكية، فإنه يجعله أيضاً مهدّداً بالاختفاء.

أجد نفسي اليوم، ككاتب يشتغل في هذا الفضاء، مطالباً بأن أكتب على وعيٍ بالوسيط، لا أن أستخدمه كقالب محايد. فالنص في البيئة الرقمية ليس مجرد حامل للمعنى، بل هو كيان متشابك بين لغة بشرية ولغة آلية، بين جمالية الكلمة ودينامية الشيفرة. وهو، في جوهره، دعوة مفتوحة لإعادة النظر في علاقة الإنسان بالكلمة، من لحظة النطق الأولى، إلى لحظة التحوّل إلى بايتات ضوئية تعبر الكابل البحري.

بهذا المعنى، يمكن القول إن التكنونصوص ليست مجرد مرحلة في تاريخ الأدب، بل هي انعطافة معرفية وثقافية، تجبرنا على إعادة صياغة السؤال القديم: ماذا يعني أن نكتب؟ ولكن هذه المرة، والإجابة تومض على شاشة مضيئة، بينما الحروف تتحرّك، وتتنفس، وتختفي، لتولد من جديد.

لو رغبت، يمكنني أيضاً أن أُتبع هذا المقال بدراسة مقارنة بين التكنونصوص وتجارب الأدب الورقي الكلاسيكي، مع أمثلة تطبيقية من الأدب العربي المعاصر.

0 التعليقات: