الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 28، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (8) توني موريسون وأنجيلا ديفيس : عبده حقي


في عام 2012، التأمت الروائية الأمريكية توني موريسون، الحائزة على جائزة نوبل في الأدب، مع المناضلة النسوية والمفكرة الماركسية أنجيلا ديفيس في حوار علني بعنوان The Meaning of Freedom (معنى الحرية). كان اللقاء أكثر من مجرد محادثة؛ لقد جمع بين سلطة الأدب وتجربة السجن، بين ذاكرة العبودية وواقع الاعتقال الجماعي، بين الحلم بالتحرر وممارسة النضال. في هذا الحوار، برزت أسئلة الحرية كقضايا شائكة تتجاوز الحدود الأمريكية لتتردد عالميًا، حيث تقاطعت الرواية مع السجن، والكلمة مع المقاومة، والذاكرة مع المستقبل.

بالنسبة لتوني موريسون، الحرية تبدأ من القدرة على إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر المهمشين. ففي روايتها الشهيرة Beloved (الحبيبة، 1987)، استلهمت قصة امرأة مستعبَدة قتلت ابنتها حتى لا تقع في براثن العبودية. النص يعيد صياغة المأساة كملحمة إنسانية تضع الحرية فوق الحياة ذاتها. موريسون جعلت من السرد أداة لإحياء ذاكرة العبودية التي حاول التاريخ الرسمي محوها.

في حوارها مع ديفيس، شددت على أن الكتابة ليست مجرد إنتاج جمالي، بل ممارسة تحريرية تمنح صوتًا لأولئك الذين (أُسكتوا). الحرية في نظرها ليست غياب القيود فقط، بل القدرة على تشكيل هوية جماعية من داخل جراح الماضي، وتحويل الألم إلى خطاب مقاوم يتحدى النسيان.

أما أنجيلا ديفيس فقدمت الحرية كتجربة جسدية وسياسية. اعتُقلت في السبعينيات بتهم ملفقة جعلتها رمزًا للنضال ضد العنصرية والمؤسسة الأمنية الأمريكية. كتابها

Are Prisons Obsolete? (هل السجون متقادمة؟ 2003) يضع سؤال الحرية في قلب نقدها لمجمع السجون الصناعي. في الحوار مع موريسون، أكدت أن الحرية الحقيقية لا يمكن أن تُفهم دون تفكيك منظومة السجون التي تحتجز ملايين السود واللاتينيين، ما يحوّل الحرية إلى امتياز أبيض لا حقًا إنسانيًا.

تجربتها في السجن جعلت منها شاهدة على كيف يُختزل الجسد الأسود في ملف أمني. الحرية عندها فعل نضالي يومي، يتطلب بناء شبكات تضامن قادرة على مواجهة سياسات التهميش، والتفكير في بدائل مثل العدالة الإصلاحية والعدالة المجتمعية.

جمالية الحوار تكمن في التوازي بين التجربتين: موريسون تكتب لإعادة تشكيل الوعي، وديفيس تناضل لإعادة تشكيل الواقع. كلاهما يرفض اختزال الحرية في خطاب قانوني بارد. موريسون تعطي للألم معنى عبر الكلمة، بينما ديفيس تعطي للنضال أفقًا عبر الفعل السياسي.

حين تحدّثت موريسون عن الذاكرة الجماعية التي تحملها شخصياتها الروائية، وجدت ديفيس نفسها تتحدث عن السجناء الذين يتحولون إلى أرقام بلا أسماء. الاثنتان التقتا عند فكرة أن الحرية هي استعادة الاسم، استعادة الصوت، واستعادة القدرة على الحلم.

الحرية كمسؤولية جماعية

من أبرز القضايا التي برزت في الحوار أن الحرية لا يمكن أن تُفهم كمنحة فردية. موريسون أكدت أن الكتابة التي تحوّل الألم الفردي إلى ذاكرة جمعية تصنع مقاومة مشتركة. أما ديفيس، فذهبت أبعد: الحرية مشروع جماعي يتطلب شمول النساء، الفقراء، السجناء، والمهاجرين.

هذه الفكرة جعلت من النقاش نقطة التقاء مع حركات عالمية مثل نضال الفلسطينيين ضد الاحتلال أو نضالات الجنوب الإفريقي ضد الأبارتهايد. الحرية عند ديفيس وموريسون لا تُختزل في الولايات المتحدة، بل تتجاوزها إلى فضاء كوني يرى في التضامن شرطًا للتحرر.

الحرية في زمن العولمة والسجون

توقيت الحوار كان بالغ الأهمية. فقد جاء في زمن توسّع ظاهرة السجن الجماعي، التي وصفتها ميشيل ألكسندر في كتابها The New Jim Crow (جيم كرو الجديد، 2010) بأنها نظام تمييز عنصري معاصر.

أنجيلا ديفيس ربطت بين سياسات الأمن الداخلي بعد 11 سبتمبر وصعود المجمع الصناعي-السجني، معتبرة أن الدولة أعادت إنتاج الرق في صورة قانونية جديدة. موريسون من جانبها رأت أن الأدب يفضح هذه السياسات عبر تصوير آثارها الإنسانية: شخصياتها الروائية لا تنجو من الماضي بل تعيشه كظل دائم، كما هو حال المجتمع الأمريكي مع تاريخه الاستعبادي.

البعد الإنساني للحرية

إلى جانب البعد السياسي، طرح الحوار رؤية وجودية للحرية. موريسون رأت أن الحرية تكمن في القدرة على تخيّل عالم مختلف، حيث يصبح الأدب مختبرًا للحياة الممكنة. أما ديفيس، فقد عرّفت الحرية بأنها التحرر من الخوف، من الرقابة، من التهديد الدائم بالسجن أو العنف الشرطي.

هذا البعد الإنساني جعل الحرية قضية عاجلة، ليست مشروعًا مؤجلًا بل شرطًا للبقاء. فالكتابة والنضال معًا يعلّمان أن الحرية ليست رفاهًا، بل حاجة يومية تُمارَس وتُبنى باستمرار.

أثر الحوار على الفكر والحركات المعاصرة

ما يجعل هذا الحوار حيًا حتى اليوم هو أثره على حركات العدالة العرقية مثل

Black Lives Matter.  كلمات موريسون وديفيس تتردد في شعارات المتظاهرين الذين يربطون بين الماضي الاستعبادي والحاضر الأمني.

موريسون تُذكّر بأن محو الذاكرة هو شكل آخر من العبودية، وديفيس تذكّر بأن السجون هي استمرار للاستعمار الداخلي. الاثنتان صاغتا معًا خطابًا يحرّك الوعي ويمنح الحركات الاجتماعية لغة جديدة لفهم الحرية وممارستها.

الحوار بين توني موريسون وأنجيلا ديفيس ليس مجرد نقاش عابر في قاعة عامة، بل شهادة فكرية تكشف أن الحرية مشروع لا ينتهي. موريسون جعلت من الأدب ذاكرة مقاومة، وديفيس جعلت من النضال السياسي ممارسة يومية للتحرر. اللقاء بينهما برهان على أن الكلمة والفعل ليسا مسارين منفصلين، بل مجريان يلتقيان في نهر واحد اسمه "الحرية".

إنه دعوة لإعادة تعريف الحرية لا بوصفها حقًا قانونيًا فحسب، بل كشرط إنساني وأخلاقي، يتطلب مواجهة الماضي والحاضر في آن، وبناء مستقبل أكثر عدلًا. ومن خلال هذا الحوار، يصبح واضحًا أن الحرية ليست هدية تُعطى، بل فعل مستمر يُنتزع بالكلمة والمقاومة معًا.

0 التعليقات: