تبحث هذه الدراسة في مستقبل الظاهرة الدينية عبر ثلاثة محركات كبرى شكّلت تاريخها: تفسير المجهول، الضبط الاجتماعي، والدعم النفسي. ننطلق من فرضية مفادها أن الدين لن يختفي، بل سيُعاد تشكيله في أنماط أكثر فردانية وتخصيصًا، مع بروز صيغ “روحانية عملية” وبيئية، مقابل انحسار وظيفته القانونية والسياسية لصالح الدولة الحديثة والتقنيات الضابطة. وتجادل الدراسة بأن موجات الأصولية المعاصرة تمثّل ردّ فعل إعادة معايرة أكثر مما هي عودة “أصيلة” إلى الماضي.
1 سؤال المستقبل: من “انقراض الأديان” إلى
“إعادة تشكيلها”
سادت في القرن التاسع
عشر وبدايات العشرين تصوّرات تقضي بانطفاء الدين أمام العلم والصناعة (كونت، فريزر).
غير أنّ التحولات اللاحقة—خصوصًا منذ سبعينيات القرن العشرين—أظهرت عودة دينية بأشكال
متعددة: أصوليات منظّمة، وروحانيات فردية، وعلمانيات متصالحة مع معنى شخصي للحياة.
يقدم هذا المشهد دليلاً على أن السؤال الأصح ليس: هل سينقرض الدين؟ بل: كيف سيتحوّل؟
المسلّمة الأولى: الدين
بنية متحوّلة تؤدي وظائف تتبدّل بتبدّل البيئة الاجتماعية والمعرفية.
المسلّمة الثانية:
الوظائف الثلاث (التفسير/الضبط/الدعم) لا تختفي معًا؛ بل تتراجع إحداها وتتقدّم أخرى.
2) الإطار المفاهيمي: ثلاثة محركات تاريخية
أ) التفسير المعرفي
للمجهول
نشأ الدين في بيئات
تفتقر إلى تفسيرات علمية منظمة لأسئلة الأصل والمصير والظواهر الطبيعية. ومع توسّع
العلم، انكمشت هذه الوظيفة باستثناء سؤال ما بعد الموت؛ إذ ما يزال “الحدّ الوجودي”
للحياة والموت فضاءً مفتوحًا للرمز والرجاء.
ب) الضبط الاجتماعي
والأخلاقي
قدّم الدين تاريخيًا
منظومة ردع وترغيب، ورسّخ الطاعة للسلطات والعادات. لكن الدولة الحديثة وتقنيات المراقبة
والقانون الوضعي استوعبت جانبًا كبيرًا من هذه الوظيفة، كما تطوّرت الأخلاق في أطر
حقوقية كونية لا تستمدّ شرعيتها من نصوص مقدسة مباشرة.
ج) الدعم النفسي والمعنوي
يوفّر الدين “رأس مالًا
وجدانيًا” عند الفقد والمرض والضياع، ويمنح معنى للمحنة والألم. ومع توسّع خدمات العلاج
النفسي والرفاه العقلي، ظهرت بدائل “علمانية” جزئية (العلاج، مجموعات الدعم، اليوغا،
التأمل)، لكنها لم تلغِ الحاجة إلى لغة المعنى والرجاء التي يقدّمها الدين.
3) أطروحة الدراسة: من المؤسسي إلى الشخصي
وفقًا لقراءة مستلهمة
من ماكس فيبر، يتحرك الدين من هيئات جماعية صلبة إلى تديّن مُفصّل على مقاس الفرد:
انتقاء عقائدي، ممارسات انتقائية، هويات هجينة. ليس ذلك “سطحية”، بل مواءمة وظيفية:
يبحث الفرد عن جرعة المعنى والهوية والطمأنينة التي يحتاجها دون الارتهان الكلّي لمؤسسة.
نتيجة: ستتراجع سطوة
المأسسة الدينية في المجال العام، لصالح “سوق ديني وروحاني” تنافسي، تتجاور فيه الكنيسة
والمشيخة والعيادة النفسية وتطبيقات التأمل والمنصات الرقمية.
4) الأصوليات: ارتداد تكيفي لا رجعة إلى الماضي
تشير موجات الأصولية
في الإسلام والمسيحية والهندوسية إلى ردّ فعل هووي على التحديث المتسارع، لا إلى انتصار
نهائي للماضي. الأصولية تعيد ترتيب النصوص والطقوس لتلائم قلق الحاضر:
تبسّط التعقيد الأخلاقي
والسياسي إلى يقينيات واضحة.
توفّر شبكة انتماء
وانضباط في عالم مائع.
تستثمر في رمزية “الماضي
النقي” لكنها تُصنّع حاضرها بأدوات حديثة (إعلام، منصّات، تنظيم).
التقدير: مع اشتداد
الفردنة والتمدين والتعليم، ستبقى الأصولية حاضرة لكنها أقل قدرة على احتكار المجال
العام، وأكثر انقسامًا داخليًا كلما صعُب عليها “توفيق الأوضاع” مع الاقتصاد والقانون
والالتزامات الدولية.
5) خرائط اختلاف: أوروبا/الولايات المتحدة/الهند
أوروبا الغربية: علمانية
مؤسسية عميقة، تدين منخفض مؤسسيًا مع صعود روحانيات فردية.
الولايات المتحدة
(الجنوب والأحزمة الإنجيلية): تدين مدني قوي، مؤسسات دينية نافذة في المجتمع المحلي
والسياسة الثقافية، مع نمو ملحوظ لـ“اللادينيين”.
الهند: قومية دينية
هندوسية تمزج الهوية الروحية بالسيادة السياسية، متكئة على سردية ماضٍ حضاري، وتستعير
أدوات التعبئة الحديثة.
الخلاصة المقارنة:
مستوى التصنيع والتحضر، وبنية الدولة، والذاكرة التاريخية للصراع الديني/القومي—كلها
عوامل تُحدّد شكل الحضور الديني لا وجوده من عدمه.
6) تطوّر الأخلاق: من “التبرير الديني” إلى
“المعيارية الحقوقية”
تغيّرت معايير الرق
والجندر والعقوبات عبر القرون. اليوم، تصوغ إعلانات الحقوق والقوانين الدولية والمواثيق
الوطنية أخلاقًا معيارية مرنة وتراكمية. تتكيف الخطابات الدينية—داخل كل تقليد—مع هذه
المعايير عبر إعادة التأويل (تاريخنة النص، مقاصدية، فقه الواقع، لاهوت التحرير… إلخ).
الدلالة: الأخلاق لا
تُستحدث حصراً داخل الدين، لكنها أيضًا لا تنفصل عنه كليًا؛ العلاقة تفاعلية تتبادل
فيها المرجعيات التأثير.
7) بدائل وظيفية: القانون والتكنولوجيا والعلاج
الضبط: الكاميرات،
البصمة الرقمية، الأنظمة القضائية—كلها خفّضت الحاجة إلى “عين من السماء” لضمان الامتثال.
المعنى والطمأنينة:
العلاج النفسي، مجموعات الدعم، “اقتصاد الرفاه”، والتأمل—توفّر بدائل جزئية.
المجتمع والانتماء:
منصّات رقمية، حركات مدنية، أندية، وفنون تشارك—تتنافس مع المؤسسة الدينية على بناء
“جماعة دافئة”.
لكن هذه البدائل لا
تُغلق السؤال الوجودي (الموت/الغاية/العدالة الكونية)، ما يُبقي نافذة للدين (أو للروحانيات)
بوصفه لغةً للمعنى.
8) سيناريوهات حتى 2050
تديّن مُشخّص (السيناريو
المرجّح):
انخفاض الانتماء المؤسسي
الصارم، وارتفاع “التديّن الانتقائي”.
استمرار الأصوليات
ولكن بتشظّي داخلي وتراجع قدرة الاحتكار.
بيئة-روحانية وأخلاقيات
الكوكب:
صعود سرديات “قداسة
الطبيعة” و“العيش الرشيق” مع شحّ الموارد والمخاطر المناخية.
ظهور ليتورجيات خضراء
داخل تقاليد قائمة أو خارجها.
ديانات خوارزمية/رقمية:
مجتمعات معنى افتراضية،
طقوس عبر الواقع الممتد، زعامات كاريزمية “لا مادية”.
أخلاقيات مُولّدة
(بالمعنى الحرفي) تتفاوض مع القانون والأمن السيبراني.
استرجاع أصولي ظرفي:
في أزمنة الأزمات
(حروب/أوبئة/انهيارات اقتصادية) قد ترتفع جاذبية اليقينيات القصوى، قبل أن تتراجع مجددًا
مع الاستقرار.
9) مؤشرات للمتابعة
نسب الانتماء الديني
مقابل “اللاديني/الروحي بلا انتماء”.
التشريعات الحقوقية
وتأثيرها على خطاب المؤسسات الدينية.
وزن الخدمات العلاجية
والرفاهية النفسية في الاقتصاد الاجتماعي.
كثافة المجتمعات الرقمية
وطقوسها ورموزها.
خرائط الأصولية: التمويل،
التجنيد، قدرة النفاذ إلى التعليم والإعلام.
خاتمة: دينٌ صديقٌ
للإنسان والكوكب
ليس مستقبل الدين معركة
“وجود/عدم”، بل مسار تشكّل. سيتقلص دوره كقانونٍ وهيئة ضبط، وسيبقى—ويتجدد—بوصفه لغةً
للمعنى والرجاء والهوية. الأفضل للبشرية ليس دينًا يقف ضد العلم والحقوق والبيئة، ولا
علمًا يستأصل الرموز واحتياجات العزاء، بل تعاقد أخلاقي جديد:
دينٌ يقرّ بتاريخانيته
ويُحسن التأويل.
دولةٌ عادلةٌ قويةٌ
بحقوقها لا بعقوباتها.
علمٌ متواضعٌ أمام
الأسئلة القصوى.
روحانياتٌ تُهذّب الرغبة
البشرية دون أن تُلغِي الفرح.
0 التعليقات:
إرسال تعليق