حين نذكر اسم أحمد شوقي، ينصرف الذهن مباشرة إلى "أمير الشعراء" الذي خلّد نفسه في القصيدة العربية الكلاسيكية. غير أنّ ثمة جوانب في تجربته الأدبية ما تزال طيَّ النسيان، ومن أبرزها محاولاته في كتابة الرواية والمسرح السردي. هذه النصوص التي اصطلح بعض الباحثين على تسميتها بـ"الروايات المجهولة" تكشف عن طموح شوقي في تجاوز صرامة الوزن والقافية نحو فضاء الحكي، وإنْ ظلّ مرتبطاً باللغة الشعرية والرمزية التي تميّز أسلوبه.
"عذراء الهند": بين الحكاية الشرقية والخطاب
الإصلاحي
تأتي رواية "عذراء
الهند" كمغامرة سردية تستلهم عوالم الحكاية الشرقية، حيث تتقاطع صورة الشرق الأسطوري
مع خطاب التنوير والإصلاح. النص يكشف عن رؤية شوقي إلى الآخر "الهندي" باعتباره
مرآةً للتجربة الاستعمارية، وفي الوقت ذاته فضاءً لإسقاطات ثقافية حول الحرية والهوية.
فالرواية لا تُقرأ باعتبارها مغامرة عاطفية فقط، بل بوصفها نصّاً سياسياً مقنّعاً يتساءل
عن المصير المشترك للشعوب المستعمَرة.
"لادياس": خيال متوسطي وسرد شبه ملحمي
أما رواية "لادياس"
فتغوص في خيال متوسطي تتقاطع فيه أسطورة البحر مع صراع الحضارات. اختار شوقي شخصية
نسائية محورية تمثل القوة والغواية معاً، في بناء شبه ملحمي يزاوج بين التراث اليوناني
والروح العربية. النص يكشف عن رغبة شوقي في استثمار الميثولوجيا لإعادة إنتاج خطاب
ثقافي يربط بين الماضي والحاضر، بين الشرق والغرب، وهو ما يجعل "لادياس"
وثيقة سردية في لحظة مواجهة بين ثقافتين.
"دل وتيمان": من الرومانسية إلى البعد
الوطني
في رواية "دل
وتيمان" يبرز الحس الرومانسي الذي كان سائداً في مطلع القرن العشرين، غير أنّ
شوقي يُطعّم هذا النفس العاطفي بوعي وطني مبكّر. فالحب هنا ليس غاية فردية فحسب، بل
يتجاوز إلى التعبير عن مأساة وطن يرزح تحت الاحتلال. الشخصيات تتحول إلى رموز للكرامة
والانكسار، مما يجعل الرواية أقرب إلى دراما وطنية مُبطنة أكثر منها حكاية وجدانية
بسيطة.
التداخل بين الشعر
والسرد
الميزة الأساسية لهذه
"الروايات المجهولة" أنّها لم تستطع الانفكاك كلياً عن الشعر. الجمل تُبنى
بإيقاع شعري، والحوارات تتخذ شكل مونولوجات إنشادية، وكأنّ شوقي كان يكتب "شعراً
روائياً" أكثر مما يكتب سرداً بالمعنى الحديث. هذه الخاصية تجعل النصوص مثيرة
للجدل: هل تُحسب ضمن تاريخ الرواية العربية، أم تُترك في الهامش بوصفها محاولات انتقالية
بين القصيدة والحكاية؟
محمود علي وإحياء النصوص
المنسية
يأتي الباحث محمود
علي في هذا السياق ليكشف النقاب عن هذه الأعمال، محاولاً إعادة قراءتها ضمن تاريخ الأدب
العربي الحديث. إسهامه لا يقتصر على النشر والتوثيق، بل يمتد إلى طرح أسئلة حول موقع
شوقي في الرواية العربية: هل هو رائد متعثّر؟ أم مجرد شاعر حاول اختبار جنس أدبي لم
يكن قد ترسّخ بعد؟
قيمة هذه الروايات
اليوم
رغم ضعف البناء الفني
أحياناً، فإن لهذه النصوص قيمة مزدوجة:
قيمة تاريخية لأنها
تضع شوقي في سياق التحوّلات الكبرى للأدب العربي من الشعر العمودي إلى الأجناس الجديدة.
قيمة فكرية لأنها تُظهر
كيف كان الأدب يتفاعل مع قضايا الاستعمار، والهوية، والحداثة.
خاتمة
إن "الروايات
المجهولة" لشوقي – عذراء الهند، لادياس، دل وتيمان هي بمثابة مرايا تعكس أزمة
الانتقال في الثقافة العربية بين التمسك بالتقليد والرغبة في التجديد. إنها نصوص تحتاج
إلى إعادة قراءة بمنهج نقدي يضعها في مكانها الصحيح: لا بوصفها روايات مكتملة، بل كبذور
أولى لمشروع سردي ظلَّ حبيس الشعر، لكنه مع ذلك أسهم في التأسيس لوعي جديد بالأدب والهوية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق