الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 28، 2025

أنكساغوراس وفلسفة العقل : ترجمة عبده حقي


يُعَدّ الفيلسوف الإيوني أنكساغوراس Anaxagoras  المولود حوالي سنة 500 قبل الميلاد في مدينة كلازومينيس (Clazomenae –) أحد أبرز وجوه الفلسفة ما قبل سقراط. ارتبط اسمه بنقلة نوعية في التفكير اليوناني القديم، حيث جمع بين البحث الطبيعي

(physis –  فيزيس) والتأمل العقلي (logos – لوغوس) ليؤسس لرؤية جديدة للكون تقوم على مبدأين أساسيين: وجود أجزاء من كل الأشياء في كل شيء، وسيادة العقل الكوني.

غادر أنكساغوراس مسقط رأسه في أيونيا Ionia – أيونيا ليستقر في أثينا (Athens –)، المدينة التي كانت تتحول آنذاك إلى مركز للفكر والسياسة. أقام فيها ثلاثين عاماً، درّس خلالها عدداً من التلاميذ من بينهم بيركليس (Pericles –) الذي سيصبح لاحقاً من أبرز رجال الدولة الأثينيين. غير أنّ جرأته في تفسير الظواهر الطبيعية بعيداً عن الأساطير التقليدية، ولا سيما قوله إنّ الشمس Helios – هيليوس) ليست إلهاً بل صخرة متقدة ضخمة، عرّضته لمحاكمة بتهمة الإلحاد. ولمّا صدر الحكم ضده، اختار النفي إلى لامبساكوس (Lampsacus –  لامبساكوس حيث عاش حتى وفاته حوالي سنة 428 قبل الميلاد.

أبرز ما يميّز فلسفة أنكساغوراس هو إقراره بأنّ كل موجود يحتوي في ذاته أجزاءً من جميع الموجودات الأخرى. بمعنى أنّ الخبز، مثلاً، يتضمن جزيئات من العظم والدم والشَعر، كما أن الشعر يحوي في ذاته مقادير من العظم والخبز... وهكذا. هذا المبدأ، الذي يُعرف بـ "panmixis – بانمِكسيس"، يقوم على فكرة أنّ المادة قابلة للانقسام إلى ما لا نهاية، وأنّه لا وجود لعنصر نقي منفصل، بل إنّ جميع العناصر مختلطة دوماً، وما يميز الأشياء هو غلبة نوع معين من الجزيئات فيها.

بهذا الطرح، حاول أنكساغوراس أن يحلّ معضلة بارمنيدس (Parmenides –) الذي نفى إمكان نشوء شيء من لا شيء. فإذا كانت جميع العناصر موجودة في كل شيء، فإنّ "التحول" (metabole – متابوليه) ليس خلقاً من عدم، بل مجرد تغيير في نسب الاختلاط.

إلى جانب هذه النظرية المادية، قدّم أنكساغوراس مفهوماً ثورياً لما سمّاه العقل الكوني أو النوس (Nous –). هذا العقل ليس جزءاً من الخليط الكوني بل هو عنصر متميز عنه، نقي، رقيق، لا يُخالط غيره. وهو الذي أحدث الحركة الأولى في الفوضى الأصلية

(Chaos – كاوس )، فبدأت عملية الانفصال والتمايز التي أنتجت الهواء (aer – آير)، والأثير (aether – إيثر)، والماء (hydor – هيدور)، والأرض (gaia – غايا).

النوس عند أنكساغوراس ليس إلهاً بالمعنى الأسطوري، بل هو قوة عقلية منظِّمة، تمتلك القدرة على الرؤية والحكم والتدبير. إنه المبدأ الذي منح الكون نظامه kosmos – كوسموس)، وحرّك عجلة التاريخ الطبيعي، دون أن يتدخل لاحقاً تدخلاً مباشراً في التفاصيل، وهو ما يجعل بعض الباحثين يعتبرونه أول تصور "عقلاني" للعلّة الأولى.

قدّم أنكساغوراس تفسيرات رائدة لعدد من الظواهر الطبيعية والفلكية. فقد رأى أنّ القمر (Selene –  سيليني) يستمد نوره من الشمس، وأنّ الكسوف (ekleipsis – إكليبسيس) يحدث نتيجة حجب أحد الأجرام للآخر. كما وصف الرياح والأمطار والزلازل بوصفها ظواهر طبيعية وليست غضباً إلهياً.

في مجال علم الأحياء، اعتقد أن النباتات تمتلك شكلاً من أشكال العقل يسمح لها بالنمو والتكاثر، غير أنّ الإنسان يتميز عنها بامتلاكه اليدين (cheires – خيريس) التي تمنحه القدرة على الفعل والإبداع.

أما في مسألة تحديد جنس الجنين، فقد أطلق فرضية غريبة تقول إنّ الجنين إذا ارتبط بالجهة اليمنى من الرحم صار ذكراً، وإذا ارتبط بالجهة اليسرى صار أنثى. ورغم بدائية هذا التصور، فإنه يعكس محاولة أولى لإيجاد تفسير "طبيعي" بدل التعليل الغيبي.

تكمن أهمية أنكساغوراس في كونه أول من أدخل مفهوم "العقل" Nous – نوس بوصفه قوة كونية تفسّر النظام، وهو ما سيُلهم لاحقاً سقراط وأفلاطون وأرسطو). وإذا كان أفلاطون قد اعتبره مقصّراً لأنه لم يفسر لماذا يتدخل النوس في الكون ولأجل أي غاية، فإنّ مجرد طرح الفكرة كان خطوة حاسمة في تطور الفلسفة من التفسيرات الميثولوجية إلى البحث العقلي.

أنكساغوراس جسّد مرحلة انتقالية بين الفلسفة الطبيعية القديمة والفلسفة العقلانية الكلاسيكية. فقد أعاد صياغة العلاقة بين المادة (hyle – هيولي) والعقل (Nous – نوس)، وفتح الباب أمام فكرة أنّ للكون نظاماً يمكن إدراكه بالعقل البشري. وبفضل هذه النقلة، سيصبح "النوس" حجر الأساس في تصورات لاحقة حول الإله، النفس، والسببية.

0 التعليقات: