الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 28، 2025

من حاخام يهودي إلى مفكر مسيحي مثير للجدل: ترجمة عبده حقي


لم يكن أبنير دي بورغوس Abner de Burgos – أبنير دي بورغوس، الذي عُرف بعد اعتناقه المسيحية باسم ألفونسو دي بلدوليد Alfonso de Valladolid  ، شخصية عادية في تاريخ إسبانيا الوسيطة. وُلد في مدينة بورغوس Burgos –  بورغوس في القرن الثالث عشر، ونشأ داخل المجتمع اليهودي كحاخام ومعلم ومثقف ضالع في الفلسفة والعلوم، قبل أن يفاجئ الجميع بقرار صادم: ترك دين آبائه والتحول إلى المسيحية وهو في الستين من عمره.

حين أعلن أبنير تحوله في حدود سنة 1320، كان رجلاً ناضجاً ومشهوداً له بالعلم والمعرفة. ولذلك بدا الأمر أكثر من مجرد قرار شخصي، بل صدمة فكرية وروحية داخل أوساط اليهود في قشتالة  Castile –  قشتالة. لم يكن مألوفاً أن يختار حاخام كبير هذا الطريق، خصوصاً في زمن كانت فيه العلاقات بين اليهود والمسيحيين مشحونة بالشكوك والصراعات.

تحوله فتح أبواب الجدل على مصراعيه: هل خان أبناء قومه؟ أم وجد في المسيحية جواباً عن أسئلته الوجودية؟ هذه الأسئلة لم تتوقف عن ملاحقته حتى بعد موته.

بعد تحوله، لم يكتفِ أبنير بالصمت أو العيش في الظل، بل حمل قلمه ليصبح من أبرز الكُتاب المسيحيين الموجهين ضد اليهودية. ألّف كتباً مثل موسترادور دي خوستيسيا (Mostrador de Justicia –  مظهر العدالة) وتشوفوت لا-مهايرف (Teshuvot la-Meharef – ردود على المجادل، حيث قدّم حججه لإقناع اليهود بالتحول إلى المسيحية.

هذه النصوص لم تكن مجرد تنظيرات، بل أشبه بالأسلحة في معركة فكرية محتدمة. ومن خلالها، أصبح أبنير واحداً من أكثر الأسماء إثارة للغضب في الأوساط اليهودية، وفي المقابل أداة ثمينة للكنيسة الإسبانية التي رأت فيه شاهداً من الداخل.

قصة أبنير لا يمكن قراءتها فقط من زاوية الصراع الديني. فهي أيضاً حكاية إنسان عاش صراعاً داخلياً عميقاً بين هويته اليهودية وإيمانه الجديد. لقد دفع ثمن قراره من سمعته وعلاقاته ومكانته داخل مجتمعه الأول، في حين لم يحظَ بقبول كامل في المجتمع المسيحي الذي انضم إليه.

هذا التمزق يجعل سيرته اليوم مادة ثرية لإعادة التفكير في معنى الهوية والانتماء، وكيف يمكن للفرد أن يواجه مجتمعاً كاملاً حين يغيّر موقعه الفكري والديني.

على الرغم من مرور قرون على وفاته حوالي سنة 1347، لا يزال أبنير يثير اهتمام الباحثين والمؤرخين. بعضهم يراه مثقفاً شجاعاً تحدّى مجتمعه واتبع قناعته، وآخرون يعتبرونه "منشقاً" خان تقاليد أجداده. وبين هذين الرأيين، تظل قصته مرآة تعكس توترات القرون الوسطى بين الأديان، وتظهر كيف يمكن للفلسفة أن تتحول إلى ساحة مواجهة دينية وسياسية.

ربما لم تُكتب لأفكار أبنير الفلسفية أن تندمج في التيار المسيحي السائد، لكن أثره ككاتب ومحاور لا يزال حاضراً في التاريخ الثقافي لإسبانيا. إنه مثال لشخصية تتحول من الداخل وتغيّر مسارها بشكل درامي، فيجعل من حياتها قصة تتجاوز الفرد لتصبح جزءاً من جدل أكبر حول الدين والفكر والهوية.

0 التعليقات: