الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، سبتمبر 30، 2025

انحياز اللاوعي في عناوين الصحافة الآلية: ترجمة عبده حقي

ت


شكلت الصحافة الآلية (Automated Journalism) إحدى أبرز مظاهر التحولات الرقمية في مجال الإعلام، حيث أصبح إنتاج الأخبار وصياغة العناوين يتم بدرجات متفاوتة من التدخل البشري عبر الخوارزميات. ورغم أن هذا التطور يقدم نفسه كمرادف للحياد والسرعة والموضوعية، إلا أن دراسة معمقة تكشف عن وجود طبقات من الانحيازات اللاواعية التي تتسرب إلى صلب العناوين الصحفية المنتجة آليًا.

هذه الانحيازات لا تنبع من قصد مباشر، بل من البنية الخفية التي تنظم البيانات وتوجهها، لتعيد إنتاج الهيمنة الثقافية والسياسية نفسها التي يفترض أن التكنولوجيا قادرة على تجاوزها.

لقد أشار الباحث نيكوس سميث في كتابه The Algorithmic Newsroom (2021) إلى أن الخوارزميات ليست محايدة، بل تعمل كـ"مرآة مشوهة" تعكس أولويات من يصممها ويغذيها بالبيانات. العنوان الصحفي، باعتباره واجهة النص ونافذته الأولى على القارئ، يتأثر بهذه الانحيازات بشكل مضاعف. فالعنوان قد يُبنى على أكثر الكلمات تداولًا في قواعد البيانات أو الأكثر تأثيرًا في معدلات النقر، لكن هذه الآلية لا تلتقط التعقيد الإنساني أو السياق الاجتماعي والسياسي الذي قد يتطلب صياغة أكثر حذرًا أو عمقًا.

من أبرز الأمثلة على ذلك ما أثير في الولايات المتحدة حول تغطيات صحفية آلية لمظاهرات حركة "Black Lives Matter". فقد كشفت دراسة منشورة في Journalism & Mass Communication Quarterly عام 2022 أن بعض العناوين الآلية وظّفت تعابير مثل "أعمال شغب" أو "اضطرابات" أكثر من "احتجاجات سلمية"، رغم أن البيانات الميدانية أكدت سلمية الأغلبية الساحقة من المشاركين. هذا الانزياح ليس بريئًا، بل يعكس أولويات خوارزمية ترتكز على الكلمات المفتاحية الأكثر إثارة، وهو ما يعيد إنتاج سرديات أمنية مهيمنة على حساب الحقائق الاجتماعية.

الانحياز اللاواعي لا يقف عند حدود اللغة فحسب، بل يتسع ليشمل الصور الذهنية التي تبنيها العناوين. ففي دراسة عن الإعلام الآلي في بريطانيا تقرير مؤسسة رويرتز, 2023، وُجد أن عناوين الأخبار الاقتصادية غالبًا ما تصف الأسواق باستخدام استعارات طبيعية ("العاصفة المالية"، "زلزال اقتصادي")، بينما تُختزل الأزمات الاجتماعية في أرقام وإحصاءات جافة. هذه الازدواجية في الأسلوب تعكس نزعة غير واعية لإضفاء طابع درامي على ما يمس النظام المالي، مقابل تجريد إنساني لما يتعلق بحياة الأفراد.

وإذا نظرنا إلى السياق العربي، يبرز مثال العناوين المنتجة آليًا حول قضية أسعار الوقود في المغرب والجزائر خلال 2023. فقد أظهرت منصات إخبارية تعتمد على التوليد الخوارزمي عناوين تركّز على البعد الاقتصادي المجرد ("ارتفاع جديد في أسعار الوقود")، في حين غابت الإشارات إلى الأبعاد الاجتماعية والسياسية للاحتجاجات الشعبية. هذا النقص في الوعي بالسياق يعكس انحيازًا ضمنيًا للتفسير التقني للأحداث، وتجاهلاً لأبعادها الإنسانية، وهو ما يضع الصحافة الآلية في مواجهة سؤال أخلاقي: هل تستطيع الآلة التقاط روح المجتمع، أم أنها محكومة بسطحية الأرقام والأنماط؟

ولعل الأخطر هو أن هذه الانحيازات اللاواعية تجد سندًا في الإحصاءات الرقمية نفسها. فالخوارزميات تُدرب على بيانات سابقة، وبالتالي فهي تعيد إنتاج الانحيازات التاريخية. كما وصف كاثي أونيل في كتابها Weapons of Math Destruction (2016)، فإن "الخوارزميات يمكن أن تتحول إلى آليات لتثبيت الظلم بدل تصحيحه". العناوين الصحفية الناتجة عن هذه العمليات قد تبدو حيادية، لكنها في الواقع تُكرّس انحيازًا مركبًا: فهي تخدم منطق السوق (زيادة النقرات)، وتستبطن رواسب اللغة المهيمنة، وتُقصي زوايا النظر الأقل حضورًا في البيانات.

في ضوء هذا كله، يمكن القول إن مواجهة انحياز اللاوعي في العناوين الصحفية الآلية يتطلب مقاربة متعددة المستويات. فمن جهة، هناك حاجة إلى ما يسميه شوشانا زوبوف في Surveillance Capitalism (2019) " الشفافية الخوارزمية"، أي الكشف عن الآليات التي تتحكم في إنتاج المحتوى. ومن جهة أخرى، لا بد من إدماج البعد الأخلاقي في هندسة أنظمة الصحافة الآلية، بحيث لا تُختزل في أداة لتحقيق الأرباح أو تسريع النشر، بل تصبح وسيلة للحفاظ على التعددية والدقة والعدالة في المجال الإعلامي.

إن العنوان الآلي ليس مجرد جملة قصيرة تجذب القارئ؛ إنه فضاء مشحون بالرموز والإيحاءات، يشبه في ذلك "مفتاح النص" الذي قد يفتح باب الفهم أو يغلقه. وإذا كانت الآلة قد نجحت في تقليد الصياغة اللغوية، فإنها ما تزال بعيدة عن إدراك ما أسماه بيير بورديو "العنف الرمزي" الكامن في اللغة الإعلامية. ولذلك، فإن أي اعتماد أعمى على الصحافة الآلية دون مساءلة سيؤدي إلى إعادة إنتاج نفس الهياكل اللاواعية التي لطالما نقدها علم الاجتماع والإعلام.

بهذا المعنى، فإن التحدي الحقيقي أمام الصحافة الرقمية اليوم ليس فقط في تطوير أدوات أكثر ذكاءً، بل في بناء وعي نقدي قادر على تفكيك ما يختبئ خلف العناوين الآلية، حتى لا يتحول الإعلام الجديد إلى نسخة مؤتمتة من أقدم أشكال الهيمنة.

0 التعليقات: