الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، سبتمبر 29، 2025

القصيدة المعزَّزة بالواقع: تجربة هجينة بين المادي والرقمي: ترجمة عبده حقي


أصبح الشعر يتجه نحو فضاءات جديدة يشارك فيها الجسد والتقنية، الحاضر والمتحوّل، المادي والافتراضي. فالقصيدة اليوم، وهي تدخل عالم الواقع المعزز

(Augmented Reality)، تتحول إلى مختبر مفتوح لإعادة تعريف العلاقة بين النص والفضاء، وبين الكلمة والتجربة الحسية. لم تعد الاستعارة وحدها ما يحرّك المتلقي، بل أيضاً الصورة التفاعلية، الإيماءة التي تستجيب للشاشة، أو العنصر الرقمي الذي يطفو على جدار مادي. وهنا تنشأ تجربة هجينة تجمع بين الشعر بوصفه خطاباً لغوياً، والتقنية كوسيط يوسّع مدارك التلقي.

يتضح هذا التحول من خلال التجارب التي شهدتها الساحة الأدبية في العقد الأخير، حيث حاول شعراء وفنانون دمج النصوص الشعرية في تطبيقات الواقع المعزّز. بعض المعارض في برلين ونيويورك، مثل AR Poetry Project (2018)، قدمت قصائد يمكن للمتلقي أن يقرأها وهو يوجه هاتفه نحو لوحة بيضاء فتنبثق الكلمات في الهواء، تتحرك مع حركة الجسد كما لو كانت شذرات ضوء. هذه التجارب تستحضر أسئلة نقدية حول وظيفة الشعر ذاته: هل لا يزال النص هو المركز، أم أن الوسيط أصبح شريكاً في صناعة المعنى؟

من الناحية الجمالية، يقدّم الواقع المعزَّز إمكانات تشبه إلى حد بعيد ما وصفه جان بودريار في نظريته عن "المحاكاة"، حيث تختلط العلامة بالمرجع حتى تفقد الحدود وضوحها. فالقصيدة لم تعد تُقرأ، بل تُعاش كبيئة بصرية وسمعية. وقد شبّه بعض النقاد هذه التجربة بما سمّاه رولان بارت "لذة النص"، لكن في صيغة معاصرة: لذة التفاعل الحي مع الكلمات المتجسدة.

أما من الناحية الاجتماعية، فإن هذا النمط من الشعر يفتح مجالاً جديداً للنقاش حول الديمقراطية الثقافية. فالتقنيات التي توظف الواقع المعزّز ليست متاحة على نطاق واسع، بل تحتاج إلى أجهزة ذكية حديثة وتطبيقات خاصة. هنا يظهر خطر جديد: أن يتحول الشعر إلى منتج نخبوي، يُستهلك ضمن فضاءات المعارض والمتاحف التكنولوجية، بينما يُقصى جمهور واسع لا يمتلك الوسائل التقنية. يشبه ذلك إلى حد ما ما أشار إليه بيونغ-تشول هان في كتابه مجتمع الشفافية، حين حذّر من أن التكنولوجيا قد تخلق طبقات جديدة من الاستبعاد بدل أن تحرر الأفراد.

لكن في المقابل، يمكن النظر إلى هذه التجارب باعتبارها فرصة لبعث الروح في الشعر وسط هيمنة الوسائط البصرية والمرئية. فالقصيدة المعزّزة بالواقع تلتقط مخيلة الشباب الذين يعيشون يومياً داخل تطبيقات مثل إنستغرام وتيك توك. إنها تستثمر أدوات اللعب البصري لخلق أثر شعري جديد، كما فعلت بعض المبادرات التعليمية في كندا التي استخدمت تطبيقات AR لإيصال الشعر إلى المدارس الثانوية، حيث يقرأ الطلاب قصيدة لوالت ويتمان فتظهر صور الغابة التي وصفها تتحرك على هواتفهم، فيتداخل النص بالخيال البصري.

البعد النقدي لهذه التجربة يكمن في أنها تحوّل الشعر إلى حدث عابر للحدود بين الفنون: يلتقي الأدب بالتصميم الغرافيكي، ويعانق الأداء المسرحي، ويدمج الموسيقى والصورة. هذه الهجنة تجعل القصيدة شبيهة بكائن حي يتنفس عبر وسائط متعددة، وهو ما يتقاطع مع ما قالته كاثرين هايلز في كتابها Electronic Literature عن "النصوص التقنية" (Technotexts) التي تحمل في بنيتها آثار الوسيط الذي ينقلها.

يبقى السؤال الأهم: هل تضيف هذه الهجنة قيمة جوهرية للشعر، أم أنها مجرد زخرف تقني يخفي خواء المعنى؟ الإجابة ليست واحدة. فالتجارب الرائدة تُظهر أن التقنية يمكن أن تكون حليفة للإبداع حين تعزز أفق التلقي وتفتح احتمالات جديدة للمعنى. لكن في الوقت ذاته، هناك خطر أن يتحول الشعر إلى عرض استعراضي فاقد للعمق، كما حدث في بعض المهرجانات التي قدّمت نصوصاً سطحية على شكل ألعاب بصرية جذبت الانتباه لحظياً دون أن تترك أثراً فكرياً.

إن القصيدة المعزّزة بالواقع ليست بديلاً عن القصيدة التقليدية، بل هي مسار آخر يختبر حدود الشعر في زمن رقمي. مثلما كان الشعر الحر في بدايات القرن العشرين تحدياً للموزون المقفى، فإن الواقع المعزّز يشكل اليوم تحدياً للشعر المطبوع. في كلتا الحالتين، يظل الشعر مجالاً للمغامرة، يختبر وسائطه كما يختبر معانيه. ولعل هذا هو جوهر الشعر نفسه: أن يكون دائماً في حالة تجاوز، كما الطائر الذي يحلّق في فضاء بين الأرض والسماء، بين الصفحة والشاشة، بين اللغة والخيال.

0 التعليقات: