تشكّل الكتب التراثية التي تؤرخ لحياة الشعوب اليومية نافذةً فريدةً على التاريخ الاجتماعي والثقافي. كتاب Reminiscences of Scottish Life and Character للقس دين رامسي ليس استثناءً من هذه القاعدة، فهو يقدم صوراً نابضة عن المجتمع الاسكتلندي في القرن التاسع عشر، بطرائفه وأمثاله وعاداته. لكن قيمة هذا النص لا تكمن فقط في محليته، بل أيضاً في قابليته للمقارنة مع نصوص أخرى صدرت في فضاءات مختلفة، مثل المغرب والعالم العربي، حيث برزت محاولات مشابهة لتوثيق تفاصيل الحياة الشعبية وحفظها من الضياع.
إذا كان رامسي قد ركز
على المرويات الشفوية والحكايات التي تُحكى في البيوت الاسكتلندية، فإن المغرب بدوره
عرف أعمالاً مشابهة عبر كتابات مؤرخين وأدباء رصدوا الطقوس الاجتماعية والعادات الشعبية.
فمثلاً نجد في كتابات أحمد التوفيق (وزير الأوقاف المغربي الحالي وأديب وباحث في التاريخ
الاجتماعي) إشارات دقيقة إلى الحياة اليومية في القرى المغربية خلال القرن التاسع عشر،
حيث تتقاطع موضوعاته مع اهتمام رامسي بتوثيق تفاصيل البسطاء.
كما نجد في الأدب الشعبي
المغربي، مثل الأمثال والأزجال والحكايات الشعبية التي جمعها باحثون مثل عبد الله كَنون
وعبد الحميد العلوي المجدوب، نفس النزعة إلى حفظ صوت الناس العاديين وتسجيل طرائفهم
وتعابيرهم. وهذه النصوص، مثلما فعل رامسي، تسلط الضوء على "الحكمة الشعبية"
التي تكشف ملامح الهوية الثقافية.
في كتاب رامسي، يظهر
البُعد الديني كإطار محوري في تشكيل الحياة الاسكتلندية. كثير من الحكايات التي جمعها
مرتبطة بالكنيسة، بالخطب، وبالطقوس الكنسية. وبالمثل، نجد في الثقافة المغربية والعربية
أنّ التديّن الشعبي شكّل مادة خصبة للروايات والحكايات. يكفي أن نتأمل في نصوص مثل
كتاب "المعسول" لمحمد المختار السوسي، الذي لم يوثق فقط تاريخ سوس وعلمائها،
بل أيضاً جوانب من الحياة الدينية والاجتماعية، أو مؤلفات المؤرخين في المشرق مثل الجبرتي
الذي رصد بدقة تفاصيل الحياة اليومية في مصر خلال القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع
عشر.
هذا التقاطع بين الديني
واليومي يوضح أن المجتمعات، رغم اختلافها الجغرافي والثقافي، تتشابه في طريقة استحضار
الدين كمرجع أساسي لفهم شخصياتها الشعبية.
يحتفي كتاب رامسي بالطرائف
والنكات التي تعكس روح الدعابة الاسكتلندية. ويوازي ذلك ما نجده في التراث المغربي
والعربي حيث تُختزن الطرائف في أدب الملحون أو في حكايات جحا المنتشرة في المشرق والمغرب
على حد سواء. هذه القصص ليست مجرد تسلية، بل تحمل بين طياتها نقداً اجتماعياً ساخراً
يكشف تناقضات المجتمع ووعيه الذاتي.
كما أن للأمثال الشعبية،
سواء في اسكتلندا أو المغرب، الدور نفسه في تكثيف التجربة الإنسانية في جملة قصيرة،
تختزن خبرة أجيال بكاملها. فالقول الاسكتلندي القديم: “Better bend than break” (من الأفضل أن تنحني على أن
تنكسر) يجد نظيراً مغربياً في المثل الشعبي: "اللي دار راسو في النخالة تينقبو
الدجاج"، حيث تُستعمل الصور المجازية لإيصال الحكمة بطريقة لاذعة.
المثير أن كلا التقليدين
– الاسكتلندي والعربي – ينطلقان من هاجس الحفاظ على الذاكرة الشعبية في مواجهة التغييرات
السريعة. رامسي كتب في فترة كانت فيها اسكتلندا تشهد تحولات صناعية واجتماعية عميقة،
وكان يخشى أن تضيع "الروح القديمة" للمجتمع. وبالمثل، كتب محمد المختار السوسي
في المغرب وهو يراقب التحولات الاستعمارية والحداثية التي تهدد بانمحاء الهوية المحلية.
إذن، نلمس أن هذه النصوص
ليست مجرد "ذكريات" أو "طرائف"، بل هي أعمال مقاومة للزمن، وأدوات
لحماية الذاكرة الجماعية من النسيان.
تتيح المقارنة بين
كتاب رامسي والنصوص المغربية والعربية فهماً أوسع لكيفية بناء المجتمعات لذاكرتها الشعبية.
فهي تُظهر أن سرديات الحياة اليومية – مهما اختلفت الأمكنة – تحمل دائماً هدفاً مزدوجاً:
حفظ الهوية الثقافية، ومساءلة الحاضر بعيون الماضي.
إنّ دراسة مثل هذه
النصوص عبر منظور مقارن يفتح آفاقاً جديدة في الدراسات الثقافية والأدبية، لأنه يجعلنا
ندرك أن الحكاية الشعبية في قرية اسكتلندية أو في قرية مغربية تؤدي الوظيفة ذاتها:
الحفاظ على إنسانية الإنسان في مواجهة العزلة والتغيير.
0 التعليقات:
إرسال تعليق