الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، سبتمبر 08، 2025

محاكاة الأزمات في الصحافة الغامرة: بين التجربة الافتراضية ووعي القارئ: عبده حقي


 لم يعد القارئ المعاصر يكتفي بمتابعة الأخبار من خلف زجاج بارد، بل يبحث عن تجربة معايشة حقيقية تُقحمه في قلب الحدث، وتجعله يلمس ارتجاف الأرض تحت قدميه لحظة وقوع الزلزال، أو يسمع أزيز الرصاص في خضم حرب أهلية. هنا تتدخل الصحافة الغامرة (Immersive Journalism) كأداة معرفية وجمالية، تحاول عبر تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز محاكاة الأزمات الكبرى، لا لتسلية الجمهور، بل لتمكينه من تذوق طعم المأساة كما لو كان جزءاً منها. يشبه هذا التحول النقدي انتقال الرواية من الحكي الخطي التقليدي إلى تجارب "الميتافكشن" التي كسر بها بول أوستر أو إيتالو كالفينو جدار الوهم بين النص والقارئ.

تقوم الصحافة الغامرة على فرضية أن الإدراك العاطفي والوجداني للقارئ قد يكون أكثر تأثيراً من الإحصاءات الجافة والتقارير التقنية. فمشاهدة مخيم للاجئين السوريين عبر تقنية 360 درجة، كما فعلت صحيفة The New York Times في مشروعها "The Displaced" (2015)، تترك أثراً لا يمحى مقارنة بقراءة أرقام النزوح في تقرير الأمم المتحدة. وكأن التقنية تعيدنا إلى المعنى القديم للتراجيديا اليونانية: محاكاة الألم الجماعي بغرض التطهير وإيقاظ الوعي.

لكن هذا الاتجاه يثير أيضاً أسئلة أخلاقية لا تقل خطورة. هل يتحول الألم البشري إلى فرجة رقمية؟ وهل يُختزل واقع الحرب أو الجوع في تجربة افتراضية تنتهي بانتهاء وضع النظارة؟ الباحثة نوني دو لا بينا، التي يُنظر إليها كأم لهذا النمط من الصحافة، تؤكد في كتاباتها أن الهدف ليس الإثارة بل التعاطف، وأن التقنية مجرد وسيلة لجعل "الآخر" أقرب وأقل تجريداً. ومع ذلك، يظل النقد مشروعاً، خاصة في عالم يُتهم فيه الإعلام أصلاً باستغلال المآسي لأغراض تجارية أو سياسية.

في السياق العربي، تبدو التجربة ما تزال في طورها الجنيني. ورغم بعض المحاولات الفردية في تغطية الأزمات الإنسانية، مثل النزوح في السودان أو في غزة، إلا أن غياب البنية التكنولوجية والتمويل يجعل من الصعب إنتاج محتوى منافس. غير أن هذا لا يلغي الحاجة الملحة إلى تبني هذا الأسلوب، خاصة في منطقة تموج بالأزمات، حيث يمكن للصحافة الغامرة أن تسهم في بناء وعي جمعي يتجاوز البلاغة الرسمية والشعارات السياسية. لقد أشار باحثون مثل شوشانا زوبوف في كتابها عصر رأسمالية المراقبة إلى أن التقنية لم تعد محايدة، بل تصوغ وعينا وتعيد توجيه علاقتنا بالعالم، وهو ما ينطبق بدقة على مستقبل الإعلام.

ولعل القيمة المضافة هنا تكمن في قدرة هذا النمط من السرد الصحفي على إلغاء المسافة بين "الحدث" و"المتلقي". فالقارئ لم يعد متفرجاً يراقب من علٍ، بل صار مشاركاً يتحرك في المشهد ويعيد تشكيله. هذه النقلة النوعية تشبه الانتقال من المشاهدة من شرفة مسرح تقليدي إلى التورط في "مسرح الغرفة السوداء" حيث يصبح الجمهور جزءاً من الأداء. إنها إعادة تعريف للحدود بين الخبر والتجربة، بين الإعلام والفن.

في النهاية، يضعنا هذا التحول أمام مفارقة: هل نحتاج إلى محاكاة رقمية كي ندرك فداحة الواقع؟ ربما نعم، لأن الصحافة الغامرة تقدم ما تعجز عنه الكلمات والصور الثابتة؛ فهي لا تروي الأزمة، بل تجعلنا نعيشها. ومع ذلك، يبقى التحدي في الموازنة بين الإبهار التقني والمسؤولية الأخلاقية، حتى لا يتحول القارئ إلى سائح في متحف للألم، بل إلى شاهد واعٍ يدرك أن وراء المشهد الافتراضي حياة بشرية حقيقية تنتظر الإنصاف.

0 التعليقات: