مدخل
يعود أنطوان رولت، الروائي والدراماتورج الفرنسي، في روايته الجديدة «L’angle mort du destin» (فايار، 13 آب/أغسطس 2025) إلى سؤال قديم بوسائل بنائية معاصرة: كيف تُعيد الأحداث الكبرى تشكيل الحيوات الصغيرة؟ وكيف تعمل «الزوايا العمياء»
في إدراكنا—ما لا نراه أو لا نريد أن نراه—على توجيه اختياراتنا وتكوين مصائرنا؟ الرواية، كما تقدّمها دار النشر، تُقيم بنيةً «كورالية» تتقاطع فيها أصوات متعددة بين كييف وموسكو، وتستند إلى فرضية ضد-وقائعية: ماذا لو لم يقع الغزو في 24 فبراير؟ من هذه العتبة السردية تبني فصولاً موازية تقيس أثر الحرب والسلام معًا على الأفراد، وتساءلُ السلطة الفعليّة للإنسان أمام «عجلات» التاريخ. fayard.frالعتبة الدلالية: «الزاوية العمياء» كاستعارة
اختيار «الزاوية العمياء» عنوانًا يحوّل استعارة قيادة السيارة إلى منظورٍ أخلاقي-سياسي. فهناك دائمًا شيء متروك خارج المرآة: الضجيج الدعائي، الرغبات المكبوتة، الخوف، أو الامتثال. على هذا الأساس، لا تُقدَّم الحرب سردًا خطّيًا، بل كاختبارٍ للانتباه: أين يوجَّه نظرنا؟ وماذا نحذف من المشهد كي نواصل الحياة؟ يصرّ رولت، في بياناته التعريفية، على الربط بين «المكانيزمات القاسية للتاريخ» وتعقيدات العلاقات، بحيث تُضاء الحقيقة اليومية بنورٍ «قاسٍ» لكنه كاشف. Antoine Rault - site officiel+1
البناء السردي: كورال متعدد البؤر
الرواية «كورالية» بمعنى دقيق: تعدّد البؤر السردية، وتجاور زوايا الرؤية، وتبادل مَحكيات فرعية تتجاوب على مبدأ اللّحْن والتضاد. نعاين شخصيات تعيش في كييف أو موسكو: مهندسًا معماريًا في بداية مسيرة واعدة، شابةً تحلم بأن تصبح مؤثّرة في عالم الموضة، وأمًا تفكر بنقل ابنها إلى إسرائيل بحثًا عن علاج للتوحّد. لا يجمع هذه المصائر خطُّ حبكةٍ واحدٌ بل شبكة من «شروط» تاريخية وأخلاقية، وفي قلب الشبكة سؤال البديل: ماذا لو ظلّت الحياة في مسار السلم؟ هنا تُنتج البنية الموازية (حرب/سلام) «روايتين» متداخلتين، وتُظهر كيف يمكن للحاضر نفسه أن ينقسم إلى مسارين. fayard.fr
تعمل الكورالية أيضًا عبر الاقتصاد الزمني: لقطات قصيرة ومَقاطع تتواشج بالأصداء لا بالترتيب الزمني التقليدي. وهنا تظهر تقنية «المونتاج الروائي» (التوازي/التقطيع) التي تُذكِّر بفنون السينما: مشاهد انتقالية، كادرات داخلية/خارجية، وتوسيع بطيء للّقطة القريبة حتى تُجاور المشهد العام. هذا التقطيع يمنح الرواية إيقاعًا يوازي توتّر اللحظة التاريخية ويُفكّك في الوقت نفسه «الضرورة» المزعومة التي تفرضها الدعاية.
ما قبل العاصفة: عينٌ على الأسابيع السابقة
تضعنا الرواية، وفق قراءات نقدية مبكرة، في قلب الأسابيع التي سبقت غزو أوكرانيا سنة 2022. لا تُحكى الحرب بأثر رجعي فقط؛ بل تُستعاد كحالة ترقّب، كإشارات مبثوثة في اليومي: مهندسٌ شاب في ماريوبول، مراهقٌ مشرّد، وحتى قطّ صغير مُهمَل—تفاصيل صغيرة تُومِئ إلى هشاشة المصائر على حافة الفوضى. حضور هذه العلامات «الضعيفة» يمنح النص حساسيةً أنثروبولوجية: كيف تنطق الأشياء الصغرى بما سيؤول إلى الكارثة؟ وكيف يلتقط الأدب هذه الهمسات قبل الانفجار؟ ActuaLitté.com+1
الشخصيات بوصفها «حقول قوى»
لا تتشيّأ الشخصيات إلى رموز سياسية؛ إنها تُكتب كـ«حقول قوى»: نزاهةٌ/فساد، جرأةٌ/جبن، مثاليةٌ/سخرية. الفاعلية الأخلاقية هنا ليست قرارًا حرًا خالصًا، بل محصلة لعلاقات قوة: دولةٌ وبروباغندا ووسائط اجتماعية واقتصاد هشّ وروابط عائلية. واللافت أنّ «حلم التأثير» (الإنفلونسر) ليس تفصيلًا عصريًا عابرًا، بل موضع مساءلة: أي سرديات تخلقها واجهات التواصل؟ وأيّ صورة للنجاة تعرضها على جيلٍ هشّ؟ في المقابل، يجعل رولت من مهنة العمارة مجازًا مضادًا: البناء كفعلٍ يتطلب أفقًا زمنيًا و«خطة مدينة»، في حين تدفع آلة التاريخ بالجميع نحو هندسة عكسية—هدم الذاكرة والمكان والروابط. هذه الثنائيات تُكتب بذكاء من غير وعظ، وتظلّ الشخصيات، على تفاوتها، «مُخضَعةً للمحتوم» لكن من موقع خبرتها الخاصة بالعالم. fayard.fr
ضد-الوقائعية كأداة تفكير
السؤال المركزي «ماذا لو لم يقع الغزو؟» لا يقدَّم تمرينًا ذهنيًا مجردًا، بل تقنيةً تركيبية: إذ يقيم السرد مسارَين متوازيين (حرب/سلام) يسمحان بقراءة «الضرورة» كاختراع سردي لا كقانون حديدي. على هذا النحو، تبدو الرواية قريبة من تقاليد «الرواية الأخلاقية-السياسية» التي تختبر المسؤولية الفردية داخل بنى قاهرة: ماذا يبقى من الإرادة حين تُعاد كتابة شروط الحياة من خارجنا؟ ومتى يكون «العمى» خيارًا؟ تُجيب البنية بأن العمى ليس نقصًا إدراكيًا وحسب، بل نظام دفاعي واجتماعي وإعلامي يُنتج «الممكن المقبول» ويُقصي ما عداه. هذا التصوّر تصادقه بيانات المؤلف التي تتحدث عن «قياس ما تُنزله قرارات تتجاوزنا بحيواتنا» حين نتابع الشخصيات في السلم والحرب. fayard.fr+1
اللغة والإيقاع
لغة الرواية—بحسب الانطباع العام من المقاطع المتاحة ووصف النقاد—تزاوج بين جُمَل قصيرة مُصوِّرة تُمسك بملامح اليومي (تفصيلة، حركة، تعبير وجه) ومقاطع تحليلية تُعلّق على الحدث وتوسّعه سياقيًا. هذا التناوب يُنتج إيقاعًا متوترًا: كأنّ الراوي يتردّد بين «التسجيل» و«التأويل». ولا يكاد هذا الإيقاع يفلت من كليشيهات «أدب الحرب»، لأن الرواية لا تبحث عن البطولة، بل عن «الإنقاذ الصغير»: رعاية أمّ لابنها، التفاتة لجار، إنقاذ قطّ… أي أنّها تحفر في المنطقة الرمادية حيث تصبح الأخلاق ممارسةً يومية لا شعارًا كبيرًا. تُسند هذه الرؤية قراءات صحفية رأت في العمل تمرينًا «جريئًا وفاتنًا» يختبر صِلات الشخصي بالسياسي بلا ادعاء أطروحة. Des Livres et Moi
الاستقبال الأولي وموقع العمل في مسار رولت
يتعزّز حضور الرواية في وسائل الثقافة الفرنسية مع صدورها ضمن «الرينتريه الأدبي» ونيلها إشارات إذاعية إيجابية (Coup de cœur RTL)، ما يدل على قابلية العمل للعبور بين قارئٍ عام وآخر محترف. في مسار رولت—الذي راكم خبرة المسرح والرواية—تبدو «الزاوية العمياء» تتويجًا لِميلٍ قديم عنده إلى مساءلة السلطة السياسية وتمثّلها فنّياً، ولكن عبر بوصلة إنسانية دقيقة تستقرئ الأثر اليومي لبنى القوة الكبرى. Antoine Rault - site officiel
مقارنة موجزة: من «الحياة والمصير» إلى «الزاوية العمياء»
لا تُخفي الرواية قرابتها—من بعيد—بتقليد «الرواية-المجتمع» عن الحرب، لكنها تختلف في رهانها البنائي: بدلاً من ملحمة كبرى على طريقة فاسيلي غروسمان أو «التاريخ الكبير» بعيون جهاز الدولة، تُراهن على تعدّدية أصواتٍ معاصرة وحساسية لوسائط السوشيال ميديا والاقتصاد الرمزي للظهور. إنها لا تُسائل شرعية الحرب فقط، بل تُمتحن شرعية السرديات التي تتغذّى منها وتغذّيها. بهذا المعنى، يشتغل عنوان «الزاوية العمياء» كأداة قراءة نقدية تتجاوز موضوع أوكرانيا/روسيا لتطال كل سياقٍ تُلجِئ فيه السلطة الأفراد إلى العيش داخل «حقل رؤية» مصمَّم مسبقًا.
ما تضيفه الحلقة التلفزيونية للقراءة
رغم تعذّر معاينة الحلقة كاملةً، يُفهم من مسارات التغطية الإعلامية الرسمية للمؤلف أنّ الحوارات المرافقة للكتاب تُركّز على ازدواج الحرب/السلام، وعلى فكرة أن القرارات السياسية «تُحْدِث بنا» أكثر مما «نُحْدِث بها»—وهو ما ينسجم مع خطاب المؤلف في قنواته الرسمية وتقديم دار النشر. لذا تصلح الحلقة—إن أمكن الرجوع إليها—بوصفها «بارتيتور» آخر لقراءة الكورالية نفسها: صوت الكاتب إلى جانب أصوات نصّه. Antoine Rault - site officiel+1
خاتمة
تنجح «الزاوية العمياء من القدَر» في إنعاش سؤال الوكالة الفردية داخل تاريخٍ يندفع بعنف، من غير أن تُحوّله إلى ميتافيزيقا حتمية أو بروباغندا معاكسة. قوام النجاح هنا ثلاثي: (1) بنية كورالية تُعيد توزيع مركز الثقل من «الحدث» إلى «الخبرة»، (2) ضد-وقائعية تفتح إمكان التفكير الأخلاقي عبر ممرّات الاحتمال، (3) حساسية لغوية تلتقط العلامات الصغيرة وتُعطيها وزنًا سرديًا. بذلك لا تُقرأ الرواية بوصفها «أدب حرب» فحسب، بل كتمرين نقدي على الرؤية: كيف نرى ما يتخفّى في زوايانا العمياء، وكيف نكتب حياةً قادرة—برغم كل شيء—على استعادة مساحتها الإنسانية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق