يُعَدّ التفكير في الجمال من أقدم انشغالات الإنسان؛ إذ ارتبطت التجربة الجمالية منذ العصور الأولى بالسؤال عن علاقة الإنسان بالعالم، وعن موقع الفن في النظام الكوني والأخلاقي. لم يُنظر إلى الجمال كمسألة ذوق فردي فحسب، بل كقيمة موضوعية وكونية تمسّ الحقيقة والمعرفة والفضيلة. وهكذا شكّلت الجماليات القديمة إطاراً نظرياً أساسياً، امتد أثره إلى العصور الوسطى والنهضة، ووصل تأثيره حتى النقاشات الحديثة في الفلسفة والفن.
1. أفلاطون والجمال كمثال مطلق
في محاوراته، وبالأخص
في "المأدبة"
(Symposium) و**"فيدروس" (Phaedrus)**، رسم أفلاطون ملامح فلسفة
جمالية قائمة على نظرية المثل. يرى أن الجمال المحسوس ليس سوى انعكاس ناقص لفكرة الجمال
المطلقة، التي تتجاوز كل مظاهر الحس. فالحب، في تصعيده من مستوى الجسد إلى النفس فالمعرفة،
يبلغ ذروته عند التأمل في الجمال ذاته. من هنا، فالفن عند أفلاطون ليس بريئاً: هو محاكاة
للمحاكاة
(mimesis)،
ما يجعله خطراً حين يُضلّ عن الحقيقة. ومع ذلك، ظلّ الجمال عنده سلّماً روحياً نحو
المطلق.
2. أرسطو والفن كتطهير
خلافاً لأستاذه، اعتبر
أرسطو في كتاب "فن الشعر" (Poetics) أن الفن محاكاة للطبيعة، لكنه محاكاة ذات قيمة معرفية وأخلاقية. فالتراجيديا،
عنده، تُحدث التطهير (katharsis) من مشاعر الخوف والشفقة، مما يجعلها وسيلة للتوازن النفسي والأخلاقي.
كما اهتم أرسطو بمفاهيم التناسب (symmetria) والوحدة والانسجام بين أجزاء العمل الفني، وهو ما أسس لمقاربة نقدية ما
تزال صالحة في تحليل الأشكال الفنية حتى اليوم.
3. فيثاغورس والجمال العددي
يُعزى إلى فيثاغورس
وأتباعه الربط بين الجمال والعدد، حيث رأوا في التناسب الرياضي أساساً للانسجام الموسيقي
والكوني. فكرة "موسيقى الأفلاك" (Music of the Spheres) تعكس اعتقاداً بأن الجمال ليس مجرد إحساس،
بل تعبير عن نظام كوني تحكمه النسب العددية الدقيقة. هذا التفسير الرياضي للموسيقى
والفن أثّر لاحقاً في الفكر الأفلاطوني المحدث وفي الفلسفة الإسلامية (الفارابي، الكندي).
4. الفكر الجمالي الروماني: اللذة والمنفعة
في روما القديمة، كان
للفن بُعد عملي وبلاغي. شيشرون، في خطبه وكتاباته، رأى أن البلاغة والفن يجب أن يجمعا
بين المتعة والمنفعة (utile et dulce)،
أي أن العمل الفني يحقق لذة جمالية ويؤدي وظيفة تعليمية وأخلاقية. أما هوراس في كتابه
"فن الشعر"
(Ars Poetica)،
فقد أكد على التوازن بين الشكل والمضمون، وعلى دور الشعر في تهذيب المواطن الروماني.
وهكذا صار الفن أداة للحياة المدنية والسياسية، لا مجرد تأمل ميتافيزيقي.
5. الجماليات الهندية: "الراسا" والتجربة
الانفعالية
في الشرق، قدّم التراث
الهندي نظرية جمالية غنية في نص "ناتيا شاسترا" (Nāṭyaśāstra) المنسوب إلى بهاراتا (Bharata). يطرح هذا النص مفهوم "الراسا" (Rasa) أي الجوهر الانفعالي أو الطعم الجمالي الذي
يخلقه العمل الفني ويستشعره المتلقي. الفن هنا ليس محاكاة للطبيعة، بل تجربة روحية
وعاطفية تُعيد ربط الإنسان بالكون والمقدس. تتنوع "الراسات" بين الحب، الشجاعة،
الحزن، الرعب، وغيرها، وكلها تؤدي إلى نوع من التطهير المشابه، لكن في بعد وجداني وروحي.
6. الفكر الصيني: الانسجام والطريق (Dao)
في الصين القديمة،
ارتبط الفن بالفلسفة الأخلاقية والكونية. كونفوشيوس رأى في الموسيقى والشعر وسائل للتهذيب
الأخلاقي، ولإقامة الانسجام الاجتماعي والسياسي. أما لاو تسي، مؤسس الطاوية، فقد ربط
الجمال بمفهوم الطريق (Dao)،
حيث يكون الفن تعبيراً عن التناغم مع الطبيعة والبساطة واللاافتعال. هنا لا يُنظر إلى
الجمال كزخرفة، بل كاتحاد مع النظام الكوني.
7. البُعد الكوني والأخلاقي للجماليات القديمة
القاسم المشترك بين
هذه التقاليد أن الجمال لم يكن مسألة ذاتية أو نسبية، بل قيمة موضوعية ترتبط بالنظام
الكوني والأخلاقي. فالتناسب الرياضي عند فيثاغورس، والمحاكاة المطهّرة عند أرسطو، والراسا
الهندية، والتناغم الطاوي، كلها وجوه لرؤية تجعل الجمال وسيطاً بين الإنسان والعالم،
بين الحس والمطلق.
8. أثر الجماليات القديمة في الفكر اللاحق
انتقلت مفاهيم التناسب
والانسجام والمحاكاة إلى العصور الوسطى، حيث أعاد الفلاسفة المسيحيون والإسلاميون
(أوغسطينوس، الفارابي، ابن سينا) صياغتها ضمن رؤى دينية. وفي النهضة الأوروبية، عاد
الاهتمام بالتناسب الرياضي (ليوناردو دافنشي) وبوظيفة الفن الأخلاقية. حتى الفلسفة
الحديثة ظلت تستلهم تلك الجذور: من كانط في حديثه عن الحكم الجمالي بوصفه "غائياً
بلا غاية"، إلى هيغل الذي رأى الفن تجلياً للروح المطلق.
خاتمة
إن دراسة الجماليات
القديمة تكشف أن مفهوم الجمال لم يكن مجرد ترف فكري، بل جزءاً أصيلاً من البحث عن الحقيقة
والنظام الكوني. من أفلاطون وأرسطو إلى بهاراتا وكونفوشيوس، يظهر أن الفن ليس فقط إبداعاً
حسياً، بل تجربة معرفية وروحية وأخلاقية. وما تزال هذه الرؤى القديمة تضع أساساً لنقاشاتنا
المعاصرة حول الفن، بين كونه محاكاة، تطهيراً، تجربة وجدانية، أو انسجاماً كونياً.
مراجع أساسية مقترحة
Plato, Symposium
and Phaedrus.
Aristotle,
Poetics.
Cicero, De
Oratore.
Horace, Ars
Poetica.
Bharata, Nāṭyaśāstra.
Confucius,
Analects.
Laozi, Tao Te
Ching.
Pythagoras
(fragmentary reports on harmonics).








0 التعليقات:
إرسال تعليق