تطرح الفلسفة منذ بداياتها سؤالًا محوريًا حول طبيعة الكائنات التي لا تنتمي إلى العالم المحسوس، أي ما يُعرف بـ الكائنات المجرّدة. هذا المفهوم يشكّل حجر زاوية في مجالات الميتافيزيقا، فلسفة الرياضيات، وفلسفة اللغة، لأنه يضعنا أمام ثنائية دقيقة: المجرّد مقابل المحسوس. الأعداد، المجموعات، والخصائص العامة تُعتبر النماذج البارزة للكائنات المجرّدة، في حين أنّ الكائنات الحيّة والأشياء المادية تمثل عالم المحسوس. غير أنّ التحدي الفلسفي يكمن في رسم الحدود الفاصلة بين هذين المستويين من الوجود، بل وحتى في السؤال: هل الكائنات المجرّدة موجودة حقًا أم أنّها مجرد أوهام عقلية؟
طرق تحديد الكائنات
المجرّد
حاولت الفلسفة تقديم
عدة مسارات لتعريف هذه الكائنات:
المسار الأول: الأمثلة
المباشرة
يُعتبر الأعداد أو
المجموعات كائنات نموذجية دون الحاجة لتعريف جوهري. وهنا تصبح الثنائية (مجرّد/محسوس)
فكرة أولية لا تحتاج إلى تحليل أعمق.
المسار الثاني: التماهي
مع مفاهيم فلسفية أخرى
يذهب بعض الفلاسفة
إلى أنّ التفريق بين المجرّد والمحسوس ليس سوى إعادة صياغة لتمييز آخر قديم مثل (الكليات/الجزئيات).
المسار الثالث: مسار
التجريد
وفق هذا المنظور، تُولد
الكائنات المجرّدة من عملية عقلية تقوم على حذف السمات الفردية والاحتفاظ بما هو مشترك
وعام.
المسار الرابع: مبادئ
التجريد عند فريجه
وهو مسار أكثر دقّة،
يرى أن الكائن المجرّد يتأسس وفق مبدأ رياضي أو منطقي (علاقة تكافؤ) يُعطي معنىً مستقلاً
للشيء.
تعريف بالنفي: ما ليس
مجرّدًا
اتجاه آخر يحاول تعريف
المجرّد عبر النفي: فهو ما لا يخضع للزمن ولا يحتل مكانًا في الفضاء، ولا يمارس فعلًا
سببيًا مباشرًا. فالأعداد مثلًا لا تحرّك الأشياء ولا تُرى في مكان محدّد. لكن هذا
التعريف يصطدم بمفارقات: فالأعمال الأدبية، رغم تجريدها، تؤثّر في القرّاء وتُغيّر
حياتهم، ما يعني أنها تمارس نوعًا من الفعل السببي غير المباشر.
المعضلة المعرفية
هنا يظهر سؤال أعمق:
كيف نعرف الكائنات المجرّدة إن لم تكن جزءًا من شبكة السببية التي تصل بين الأشياء
المحسوسة؟
أنصار الأفلاطونية
يؤكدون وجودها في عالم خاص فوق الحسّي، لكنهم يواجهون إشكالًا إبستمولوجيًا: كيف يصل
العقل البشري إلى هذا العالم؟
أما الاسميون فيرفضون
وجودها الواقعي ويعتبرونها مجرد أسماء أو رموز لغوية تسهّل التفكير، لكن عليهم تفسير
كيف تبقى الرياضيات والعلوم صالحة إذا لم يكن هناك ما يقابلها في الواقع
بين هذين الموقفين
ظهرت اتجاهات وسطية مثل الخيالية (fictionalism)،
التي ترى أنّ التعامل مع الكائنات المجرّدة يشبه التعامل مع الشخصيات الروائية: نفترض
وجودها لغرض الفهم والانسجام الفكري، من غير أن نلتزم بواقعيتها.
الكائنات المجرّدة
والأدب
من منظور الكاتب والأديب،
يمكن إدخال هذه النقاشات في حقل الخيال. فالشخصيات الأدبية مثل دون كيخوته أو ألف ليلة
وليلة قد تُفهم بوصفها كائنات مجرّدة: لا وجود لها في الطبيعة، لكنها تمتلك قدرة هائلة
على التأثير، إذ غيّرت الوعي الإنساني عبر القرون. هنا يظهر ما يمكن أن نسميه المجرّد
الثقافي: كيانات ليست مادية، لكنها تتشكّل عبر اللغة والخيال وتصبح جزءًا من تراث الإنسانية.
هذا يفتح سؤالًا فلسفيًا
جديدًا: هل يمكن اعتبار الأعمال الفنية والأدبية كائنات مجرّدة قائمة بذاتها؟ أم أنها
مجرد انعكاسات ذهنية مرتبطة بالوعي البشري؟
نحو تصور أدبي-فلسفي
يمكن التفكير في موقف
"أفلاطونية أدبية" ترى أن النصوص والشخصيات والرموز تمتلك وجودًا متعاليًا
ومستقلًا، مقابل "اسمية أدبية" تعتبرها مجرد علامات لغوية لا تتجاوز حدود
النص. وبينهما مساحة خصبة للتأمل: فالأدب نفسه يمارس عملية تجريد متواصلة، يحوّل الواقع
المادي إلى رموز وصور، ثم يعيد إسقاطها لتصنع أثرًا في القارئ.
بهذا المعنى، يصبح
الأدب مختبرًا فلسفيًا لتجريب فكرة المجرّد، حيث تُصبح الرواية أو القصيدة جسرًا بين
عوالم غير مرئية وواقع ملموس، بين الكائنات المجرّدة التي لا مكان لها إلا في الذهن،
وبين فعلها العميق في التاريخ والوجدان.
خاتمة
يبقى مفهوم الكائنات
المجرّدة من أعقد إشكالات الفلسفة، إذ يكشف هشاشة الحدود بين المحسوس واللامحسوس، بين
المادي والرمزي. وإذا كانت الفلسفة تبحث عن تعريف دقيق وصارم لهذه الكائنات، فإن الأدب
يقدّم تجليات حيّة لها عبر اللغة والخيال. ربما لهذا السبب ظلّت الثنائية (المجرّد/المحسوس)
ليست فقط قضية ميتافيزيقية، بل أيضًا سؤالًا جماليًا وإبداعيًا يعيد تشكيل علاقتنا
بالواقع وما وراءه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق