في عالم يتسارع نحو اللامكان، حيث يتحول المكتب إلى شاشة والحقيبة إلى وطنٍ مؤقت، يطلّ علينا الرحّل الرقميون كأشباح حديثة تسكن بين الواقع والافتراض، بين الأرض والسحابة. هؤلاء الذين يكتبون من المقاهي الحدودية، ويعملون من جزرٍ بلا خرائط سياسية، يعيشون سردياتٍ غير مرئية في مجتمعات بلا دولة، حيث يصبح مفهوم الانتماء نفسه مادةً رقمية قابلة للتعديل.
تُعيد هذه الظاهرة تشكيل العلاقة بين الجغرافيا والهوية. فوفقًا لكتاب The Digital Nomad (Makimoto & Manners, 1997)، فإن التحول من “المواطن” إلى “العابر” ليس فقط انتقالًا في نمط العمل، بل هو تحوّل فلسفي في معنى الوجود الاجتماعي. فالرحّل الرقميون لا يهاجرون فحسب، بل يُعيدون تعريف حدود الدولة ذاتها، عبر شبكات افتراضية تربطهم بمراكز عمل متناثرة من بانكوك إلى الدار البيضاء.
ومع ذلك، فإن هذا النمط المعياري الجديد من الحياة الرقمية يخفي مفارقة مريرة. ففي مجتمعات بلا دولة أو ذات سيادة هشة—كلاجئي الإنترنت أو المهاجرين الاقتصاديين الرقميين—يتحول الحلم بالحرية إلى قيدٍ غير منظور. فالأمن الاجتماعي مفقود، والحقوق القانونية مؤجلة، والهوية المكانية مستبدلة بعنوان بريد إلكتروني. كما كتبت الصحفية Sarah Gilbert في تقريرها بـThe Guardian (2023): “يعمل الرحّل الرقميون في مدنٍ تستضيفهم مؤقتًا لكنها لا تعترف بهم مواطنين”. إنهم موجودون في الفضاء الاقتصادي، غائبون عن الفضاء السياسي.
الصحافة هنا تواجه مأزقًا جديدًا: كيف يمكن تغطية “القصص اللامرئية”؟ فالمراسل التقليدي يحتاج إلى مكان، إلى حدود واضحة وأطراف نزاع. لكن في الحالة الرقمية، تغدو الجغرافيا سائلة. لم تعد الحرب وحدها هي ما يُنتج اللاجئين، بل الاقتصاد الافتراضي ذاته. ففي تقرير لمجلة Wired (2024)، أُشير إلى أن “الرحّل الرقميين يشكّلون مجتمعًا عابرًا لا يملك صوتًا سياسيًا، لكنه يمتلك أدوات إعلامية أكثر من أي دولة”.
في هذا السياق، يصبح التحدي أمام الصحافة الرقمية هو صياغة خطابٍ يتجاوز الدولة دون أن يقع في فخّ العدمية. فالمطلوب ليس تمجيد العابرين ولا رثاء المستقرين، بل قراءة البنية العميقة التي تنتج هذه الحركة: العولمة المتأخرة، اقتصاد المنصّات، وأزمة السيادة الوطنية. إنهم أبناء النيوليبرالية المتنقلة كما وصفهم Zygmunt Bauman في Liquid Modernity (2000)، حيث تتحول الهوية إلى سلعة والسفر إلى شرطٍ للوجود.
وفي العالم العربي، يكتسب هذا النقاش بُعدًا أكثر تعقيدًا. فالمجتمعات التي تعاني من هشاشة مؤسساتها أو من النزاعات الإقليمية، تُفرز بدورها جيلًا من الرحّل الرقميين العرب الذين يهربون من القيود الجغرافية ليصطدموا بحدود رقمية أخرى: الرقابة، ضعف البنية التحتية، والعزلة الثقافية. فبينما تحوّلت دبي إلى مركزٍ عالمي للعمالة الرقمية، ما تزال مدنٌ مثل الجزائر وتونس ومراكش تبحث عن إطارٍ قانوني ينظم وجود هؤلاء العابرين بين العمل الحر والمواطنة المؤقتة.
إن “القصص اللامرئية” ليست غيابًا للحدث، بل هي تغيّر في طريقة حدوثه. فبدل أن يدوّن الصحفي مسار الهجرة من الجنوب إلى الشمال، بات عليه أن يتتبع إشارات “الواي فاي” التي تنقل الوظائف والمعاني عبر القارات. بدل الخيمة، هناك السحابة؛ وبدل الحدود، هناك جدار ناري.
لذلك، فإن الكتابة عن الرحّل الرقميين في مجتمعات بلا دولة هي كتابة عن الإنسان في زمن ما بعد الجغرافيا. إنها محاولة لإعادة الاعتبار للوجود الإنساني وسط فضاءٍ يتلاشى فيه معنى الوطن، دون أن يفقد المرء حاجته العميقة إلى الانتماء. فكما قال Albert Camus: “المنفى هو وطن من لا وطن له.” غير أن المنفى اليوم لم يعد جغرافيًا، بل رقمياً، تتجسد فيه هشاشتنا المعاصرة بين الخوادم والحدود.
وهكذا تظل هذه القصص، مهما بدت لامكانية أو عابرة، مرآةً لواقعنا الأكثر صدقًا: عالمٌ يسير نحو الحرية، لكنه لا يعرف بعدُ لمن تنتمي تلك الحرية.








0 التعليقات:
إرسال تعليق