الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أكتوبر 10، 2025

قراءة في كتاب «لوران ماديو» «التحقيق في خطر» ترجمة عبده حقي


 تمهيد

في عصر تتسارع فيه المعلومة وتكثر الوسائط، يعيش الصحفي الاستقصائي — أو التحقيق الصحفي — تحديات خطيرة. في كتابه «L’investigation en péril»، يسعى لوران ماديو إلى استكشاف تلك التحديات التي تواجه التحقيق الصحفي، والكشف عن التهديدات التي قد تُفقد هذا النوع من الصحافة قدرته على القيام برسالته الأساسية: فضح الحقائق المخفية وتحقيق المساءلة العامة.

في هذا المقال، سأعرض أولًا مضمون الكتاب ومحاوره الرئيسة، ثم أقدّم قراءة نقدية: ما هي نقاط القوة؟ وما هي النقائص؟ ثم أختم ببعض الدلالات التي يمكن أن يستخلصها الصحفيون والقراء في العالم العربي.
عرض محتوى الكتاب

يرتكز كتاب «L’investigation en péril» على عدة محاور رئيسية، من بينها:

  1. الأزمات البنيوية في الصحافة الاستقصائية
    ماديو يناقش كيف أن الضغوط المالية، وتقلّص الموارد، وركود الإيرادات الإعلانية، كلها عوامل تُضعف قدرة الصحفيين على تخصيص الوقت الكافي للتحقيق الجاد والعميق.

  2. التهديدات السياسية والقانونية
    يبيّن كيف أن قوانين التشهير، أو القضايا المرفوعة أمام القضاء، أو الضغوط السياسية على وسائل الإعلام، تُشكّل تهديدًا فعليًا لحرية التحقيق الصحفي. كما يشير إلى أن الصحفي قد يقع في مرمى الاستهداف إذا كشف ملفات حساسة تتقاطع مع مصالح قوية.

  3. تحديات التكنولوجيا ووسائل التواصل
    مع انتشار الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي، تتبدل وسائل نشر التحقيق وتوزيعه، لكن في المقابل تظهر تحديات تتعلق بالأمن الرقمي، حماية المصادر، التزوير أو التشويش الإعلامي، والضغط على المنصّات الرقمية.

  4. الأخلاق المهنية وضمان الموضوعية
    ماديو يسلّط الضوء على أهمية المعايير الأخلاقية (التحقّق من المصادر، التوازن في الطرح، عدم الانحياز المسبق) حتى تظل التحقيقات موثوقة في نظر الجمهور.

  5. آفاق المستقبل وسبل الاستمرار
    أخيرًا، يحاول ماديو اقتراح بعض الحلول الممكنة: تنويع مصادر التمويل (الاشتراكات، التمويل الجماعي، المنظمات غير الربحية)، التعاون بين وسائل الإعلام، حماية قانونية أفضل للصحفيين الاستقصائيين، استخدام التكنولوجيا بحذر وذكاء.

  6. قراءة نقدية وتحليل

نقاط القوة في الكتاب

  • إقرار حقيقي بالمشكلة: ماديو لا يكتفي فقط بالتمجيد لفن التحقيق، بل يقدّم تحليلًا صريحًا ومفصّلًا للأخطار التي تهدّده، وهو ما يمنح الكتاب قيمة عملية، ليس نظرية فقط.

  • شمولية التحديات: يغطي الكتاب الجوانب المالية، القانونية، التقنية، والأخلاقية، مما يمنح القارئ صورة متكاملة عن الوضع الراهن.

  • الحسّ النقدي: الكاتب لا يكتفِ بعرض المشكلات، بل يتوخّى أيضًا بعض الحلول، إن في شكل مقترحات أو تنبؤات، مما يدلّ على رغبة في التأثير والإصلاح.

  • اللغة والتحليل: أسلوب ماديو مقروء، مع امتلاء بالأمثلة أو الإشارات إلى تجارب واقعية (في الصحافة الفرنسية أو الأوروبية) يُسهم في ربط المفهوم بالنموذج التطبيقي.

نقاط الضعف والملاحظات الناقدة

  • قلة الأمثلة من خارج الوسط الغربي: غالبًا ما يستند ماديو إلى تجارب الصحافة الفرنسية أو الأوروبية، مما قد يجعل بعض الفقرات أقلّ صلة مباشرة بالواقع الإعلامي في بلدان خارج هذا السياق.

  • الطابع العامّ أحيانًا: في بعض الفصول، يبقى الطرح نظريًا جدًا، دون تفاصيل تنفيذية كافية لكيفية تطبيق المقترحات في بيئات ضاغطة أو مع وسائل إعلام محدودة الموارد.

  • ضعف الحصائل التجريبية: قد يُفترض أن الكاتب يدعم مقترحاته بدراسات حالة أو تجارب ناجحة – لكن في بعض الحالات، لا تكفي تلك الأمثلة أو يكون من الصعب تعميمها.

  • تجاهل بعض المتغيرات الثقافية والقانونية المحلية: هناك فرق كبير بين البيئة الصحفية في فرنسا وبين الواقع في دول أخرى من الناحية القانونية، الضغوط السياسية، أو حرية الصحافة، وهو ما قد يقلّل من قابلية تطبيق بعض الأفكار في سياقات مختلفة.

  • دلالات للصحافة العربية والكتّاب في العالم العربي

من خلال قراءة هذا الكتاب، يمكن استخلاص عدة دروس وعبر مهمة للصحافة العربية:

  1. ضرورة التكيُّف مع السياق المحلي
    لا بد من صياغة نماذج تجارية وقانونية متناسبة مع الواقع المحلي: ما يصلح في فرنسا قد لا ينجح في المغرب أو في بلدان أخرى، بسبب اختلاف التشريعات، طبيعة التمويل، ودرجة الحماية للصحفيين.

  2. تنويع مصادر التمويل
    الاعتماد الكامل على الإعلانات أو الجهات الراعية قد يضع التحرير تحت ضغط التحيّز. لذا، الاشتراكات، التمويل الجماعي (crowdfunding)، أو المنح المستقلة قد تشكّل طريقًا مهمًّا لاستدامة التحقيقات الصحفية.

  3. التعاون عبر الحدود
    تحقيقات كبرى غالبًا ما تتعدى حدود دولة واحدة (القضايا المالية الكبرى، الفساد العابر للدول). لذا يُستحسن أن تتشارك وسائل الإعلام أو الصحفيون العرب مع زملائهم في العالم في مشاريع استقصائية مشتركة.

  4. تعزيز الحماية القانونية والأمنية للصحفيين
    يجب السعي إلى تشريعات وطنية تحمي الحقوق الصحفية، بالإضافة إلى تدريب الصحفيين على الأمن الرقمي، التشفير، حماية المصادر، التعامل مع القرصنة والتهديدات الإلكترونية.

  5. تدريب مهارات الصحفي الاستقصائي
    إدراج مناهج التحقيق الصحفي في برامج الإعلام، وورش تدريبية فعلية (وركشوب)، بحيث لا يبقى التحقيق فنًا نادراً بل ممارسة ممكنة.

  6. الوعي المجتمعي بدور التحقيق
    يجب على الجمهور أن يدرك أن التحقيق ليس “هجومًا” على المؤسسات فحسب، بل وسيلة للمساءلة والشفافية، ويحتاج إلى دعم الجماعة (بالنشر، بالاهتمام، بالتمويل أحيانًا).


0 التعليقات: