يَبْدو المَشْهَدُ الثَّقافِيُّ المَغْرِبِيُّ في سَنَةِ 2025 كَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِن نَفَقٍ طَوِيلٍ لِيَدْخُلَ في خَريطَةٍ جَدِيدَةٍ مِن التَّحَوُّلِ، تتقاطعُ فِيهَا السِّياسَةُ العُمُومِيَّةُ معَ دينامِيَّةِ الفاعِلِين، وتَتَرَاكَبُ فِيهَا جُغْرافِيَا المَحَلِّيِّ والعَرَبِيِّ والدَّوْلِيِّ فِي مَسْعًى لِإِعادةِ تَعْرِيفِ «الثَّقافَةِ» كَمَجالٍ لِلاِسْتِثْمارِ والرَّهَانِ الجيو-سياسِيِّ في آنٍ واحِدٍ.
إذا كُنّا، في سَنَواتٍ سابِقَةٍ، نَشْتَكِي مِن ضُعْفِ التَّناسُقِ بَيْنَ أَجْنِحَةِ السِّياسَةِ الثَّقافِيَّةِ، فَإِنَّ ما تَكْشِفُهُ الأَخْبارُ الحَدِيثَةُ يُوحِي بِخِطابٍ جَدِيدٍ تُجَرِّبُ فِيهِ الدَّوْلَةُ وَشُرَكَاؤُها أَدَواتٍ متعدِّدَةً لِترصِيدِ التُّراثِ، وتَأطِيرِ الحاضِرِ، وتَفْتِيحِ آفاقِ المُسْتَقْبَلِ لِجِيلٍ شابٍّ يَعيشُ على إيقاعِ الرَّقْمَنَةِ والعَولَمَةِ مَعًا.
1. مَنَح «آفاق»… حِينَ يَأْتِي الدَّعْمُ مِن الفَضاءِ العَرَبِيِّ
لَيْسَ تَتَوِيجُ أَعْمالٍ أَدَبِيَّةٍ وفَنِّيَّةٍ مَغْرِبِيَّةٍ بِمَنَحِ الصُّندوقِ العَرَبِيِّ لِلثَّقافَةِ والفُنون «آفاق» لِسَنَةِ 2025 مُجرَّدَ خَبَرٍ عابِرٍ في صَفْحَةٍ ثَقافِيَّةٍ؛ إِنَّهُ يَحمِلُ دَلالَةً مُضاعَفَةً حولَ مَكَانَةِ الصَّوْتِ المَغْرِبِيِّ في خِرِيطَةِ الإبْداعِ العَرَبِيِّ المُعاصِرِ. فَالمَجْمُوعاتُ القَصَصِيَّةُ المُتَوَّجَةُ، والمَشاريعُ البَصَرِيَّةُ والوثائقيَّةُ المَدْعُومَةُ، تُراهنُ على تَصْوِيرِ إنسانٍ مَغْرِبِيٍّ مُعاصِرٍ، مُشْتَبِكٍ مَعَ سُؤالِ الهُوِيَّةِ والتحوّلِ الاجتماعيِّ، ومَعَ تَضارِيسِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ في عالَمٍ مُضْطَرِبٍ.
هُنا يَتَكَرَّسُ مَبْدَأٌ مُهِمٌّ: الإبْداعُ المَغْرِبِيُّ لَم يَعُدْ يُخاطِبُ الدّاخِلَ فَقَط، بَل يَتَغَذَّى مِن فُرَصِ التَّمْويلِ العَرَبِيِّ المُسْتَقِلِّ، ويُفْرِضُ أَسْئِلَتَهُ الجَماليَّةَ والفِكْرِيَّةَ في مَنْصّاتٍ جَوائِزِيَّةٍ تَحْتَكِمُ إلى مَعايِيرَ عَرَبِيَّةٍ ودَوْلِيَّةٍ في آنٍ. وهَذا يُعيدُ طَرْحَ سُؤالِ «وَضْعِ الكاتبِ والفنَّانِ المَغْرِبِيِّ» في الشَّبَكَةِ الثَّقافِيَّةِ الكُبرى، حيثُ يَتَجاوَرُ الدَّعْمُ المَحَلِّيُّ معَ التَّتْويجِ العَرَبِيِّ، في مَسَارٍ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلى رَأْسْمالٍ رَمْزِيٍّ وإعلامِيٍّ مُؤثِّرٍ.
2. «كُنُوزٌ بَشَرِيَّةٌ حَيَّةٌ»… التُّراثُ كَرَأْسْمالٍ مُعاصِرٍ
في مُوازاةِ هذَا الاِنْفِتَاحِ العَرَبِيِّ، يَأْتِي بَرْنامَجُ «خَزائِنِ الفُنون التَّقليدِيَّةِ المَغْرِبِيَّةِ» لِيُؤَكِّدَ أَنَّ التُّراثَ لَيْسَ مَاضِيًا جامِدًا، بَل «طاقةٌ اجتماعيَّةٌ» يُمْكِنُ أَنْ تُسْتَثْمَرَ في تَكْوِينِ جِيلٍ جَدِيدٍ مِن الحِرَفِيِّينَ. فَتَعْيينُ 15 كَنْزًا بَشَرِيًّا حَيًّا يُؤَطِّرُونَ 150 مُتَدَرِّبًا فِي مِهَنِ الفُنون التَّقليدِيَّةِ، لَيْسَ مُجَرَّدَ إِجْراءٍ إداريٍّ، بَل هُوَ تَكْرِيسٌ لِفِلْسَفَةِ «نَقْلِ الخِبْرَةِ» في مُجْتَمَعٍ مِغْرِبِيٍّ يُواجِهُ تَحَدِّي انقِطاعِ السَّلاسِلِ المِهَنِيَّةِ والعائِلِيَّةِ في المُدُنِ الكُبرى.
هُنا نَلْمَسُ نَمُوذَجًا لِـ«ثقافَةٍ حيَّةٍ» تَخْرُجُ مِن الرِّواقِ والمتْحَفِ إلى المَشاغِلِ والأحياءِ، وتُحاولُ أَنْ تُسَوِّقَ الحِرْفَةَ بوَصْفِها مَسارًا لِلْكَرَامَةِ والاِنْتِاجِ، لا لِـ«الفولكلور» السِّياحِيِّ فَقَط. وهَذا يُعيدُ رَبْطَ الثَّقافَةِ بِسُؤالِ التَّشْغِيلِ والاِدْماجِ الاجتماعيِّ.
3. دَعْمُ المَشاريعِ والفُنونِ المُعاصِرَةِ… مَا بَيْنَ النَّصِّ والقَرارِ
تَمْديدُ آجالِ دَعْمِ المَشاريعِ الثَّقافِيَّةِ والفَنِّيَّةِ، وفتحُ بابِ التَّرْشِيحِ لِدَعْمِ الموسيقى والأُغْنِيَةِ والفُنونِ الاستعراضيَّةِ، يَدُلّانِ على رَغْبَةٍ في جَعْلِ سِياسَةِ الدَّعْمِ أَدَاةً للاِسْتِمْرارِيَّةِ لا لِلظُّهُورِ الموسِمِيِّ. فَالمَجالاتُ الَّتِي تَشْمَلُها الدَّعْمِيَّاتُ الموسِيقِيَّةُ اليومَ – مِنَ الإِنْتَاجِ إلى التَّوْزِيعِ والمُشارَكَةِ في المَهْرَجاناتِ الدَّوْلِيَّةِ – تُشيرُ إلى فَهْمٍ جَدِيدٍ لِلْحَلَقَةِ الكامِلَةِ لِلصِّناعَةِ الموسِيقِيَّةِ، لا لِجُزْئِهَا المعزولِ.
وَفِي خَلْفِيَّةِ هَذا كُلِّهِ، يَظْهَرُ قَرارُ تَخْصِيصِ أَزْيَدَ مِن 9 مَلَايِينِ دِرْهَمٍ لِدَعْمِ العَمَلِ الثَّقافِيِّ والمَهْرَجاناتِ فِي سَنَةِ 2025 كَخُطْوَةٍ لِتَرْسِيخِ «سِياسَةِ القُرْبِ الثَّقافِيِّ» الَّتِي تُرَاهِنُ عَلَى تعامُلِ الدَّوْلَةِ مَعَ جَمْعِيّاتٍ ونَقابَاتٍ ومُبْدِعِين في مُخْتَلِفِ الجُغْرافِيَا المَغْرِبِيَّةِ.
غَيْرَ أنَّ هذِهِ الأَرْقامَ، مَعَ أَهَمِّيَّتِها، تَظَلُّ في حاجَةٍ إلى تَقْيِيمٍ دَوْرِيٍّ: مَا نَصِيبُ المَشاريعِ الجِدِّيَّةِ مِن هَذا الدَّعْمِ؟ كَيْفَ تُرْصَدُ مَردودِيَّتُهُ في مَجالِ تَوْسيعِ جُمْهورِ الثَّقافَةِ والفُنُونِ؟ وَمَا حَدُّ شَفّافِيَّةِ لِجانِ الاِخْتِيارِ؟ هِيَ أَسْئِلَةٌ تُفْتَحُ ولا تُغْلَقُ، وتَبْقَى جُزْءًا مِن سِياجِ النَّقْدِ المَطْلُوبِ لِأَيِّ سِياسَةٍ دَعْمِيَّةٍ.
4. تَكوينُ الشَّبابِ… بَيْنَ أَكادِيمِيَّةِ الفُنونِ وكُرْسِيِّ اليونسكو
تَبْرُزُ تَجْرِبَةُ «أكاديميَّةِ الفُنون» الَّتِي تُدَبِّرُها مُؤَسَّسَةُ آل مَدا كَمِعْيارٍ لِمَا يُمْكِنُ أَنْ تَفْعَلَهُ الشَّراكَةُ بَيْنَ المَجْتَمَعِ المَدَنِيِّ والقِطاعِ الخَاصِّ في تَأْطِيرِ الشَّبابِ. فتكوينُ قرابةِ 300 شابٍّ في رِباطٍ وطنجَة مِن فُنونٍ تشكيليَّةٍ ورَقْمِيَّةٍ، مَعَ تَبَنِّي مَنْهَجِيَّةِ «التَّعَلُّمِ بالمُمارَسَةِ»، يُنْتِجُ جِيلًا يَمتَلِكُ أَدَواتِ اللُّغَةِ البَصَرِيَّةِ الجَدِيدَةِ، ويُؤهِّلُهُ لِدُخولِ السُّوقِ الإبْداعِيَّةِ بِثِقَةٍ أَكْبَرَ.
في المِحْوَرِ نَفْسِهِ، يأتي بَرْنامَجُ «المُتَطَوِّعِين مِن أَجْلِ التُّراثِ العالَميِّ» الَّذِي يُدِيرهِ كُرْسِيُّ اليونسكو بالجامِعَةِ الدَّوْلِيَّةِ لِلرِّباطِ، مُسْتَعِينًا بتِقْنِيّاتِ النَّمْذَجَةِ الثُّلاثِيَّةِ الأبعادِ، والتَّصويرِ الضَّوئِيِّ، والواقِعِ المُعزَّزِ والمُفْتَرَضِ، لِيُحوِّلَ مَعالِمَ شالَّة والأودايَةِ إلى مَساحَةٍ تَفاعُلِيَّةٍ يَخْتَبِرُ فِيهَا الشَّبابُ تَداخُلَ المَعْرِفَةِ والتِّقْنِيَّةِ.
هُنا نُواجِهُ شَكْلًا جَدِيدًا مِن «المُواطَنَةِ الثَّقافِيَّةِ»؛ فَالشَّابُّ لَم يَعُدْ مُتَلَقِّيًا سَلْبِيًّا لِمَعْلُومَةٍ عن التُّراثِ، بَل يُساهِمُ فِي تَوْثِيقِهِ وإعادةِ تَصَوُّرِهِ رَقْمِيًّا، ممَّا يَفْتَحُ البابَ لِأُطُرٍ مِهْنِيَّةٍ جَدِيدَةٍ في مَجالِ التُّراثِ الرَّقْمِيِّ والسِّياحَةِ الذَّكِيَّةِ.
5. مَواسِمُ الفُنونِ… مِن أصِيلَةَ إلى كازابلانكا وبروكسيل
لَم يَفْقِدْ «مَوْسِمُ أصِيلَةَ الثَّقافِيُّ» بَرِيقَهُ بَعْدَ ما يُقارِبُ نِصْفَ قَرْنٍ مِن الاِسْتِمْرارِ. الجَدِيدُ اليومَ أَنَّ الدَّوْرَةَ الـ 47 تُنظَّمُ في غِيابِ مُؤَسِّسَيْها الرَّاحِلَيْنِ، غَيْرَ أَنَّها تُواصِلُ الوُقوفَ فِي مُفْتَرَقِ الثَّقافِيِّ والسِّياسِيِّ؛ نقاشاتٌ حَوْلَ المُبادَرَةِ الأطلَسِيَّةِ المَغْرِبِيَّةِ، مُعارِضُ فَنِّيَّةٌ جَدِيدَةٌ، تَقْرِيبٌ لِلْكِتابِ مِن الأَطْفالِ، وفضاءٌ لِلقاءِ مُفَكِّرِين وفنّانِين مِن أَفْرِيقْيا والعالَمِ.
في الدّارِ البَيْضاءِ، يَظْهَرُ مَوْعِدٌ جَدِيدٌ يَنْبَغِي مُراقَبَتُهُ: «أوبن بورتفوليو كازابلانكا» لِفُنونِ الطِّباعَةِ المُعاصِرَةِ النّاشِئَةِ. هَذا الفَضاءُ، المَفْتوحُ لِلفَنَّانِين والطلَبَةِ والجُمْهورِ، يَسْعَى إلى وضعِ المَغْرِبِ فِي خَريطَةِ الفُنونِ الطباعِيَّةِ الجَدِيدَةِ، وَتَشْبِيكِ الفاعِلِينَ المَحَلِّيِّينَ بمؤسَّساتٍ دَوْلِيَّةٍ ومُنْتَقِدِين مِهَنِيِّينَ.
أمَّا فِي بروكسيل، فإنَّ يَوْمًا ثَقافِيًّا خُصِّصَ لِلاِحْتِفاءِ بالمغربِ، تَحْتَ شِعارِ الذَّاكِرَةِ المُشْتَرَكَةِ، يَعْكِسُ كَيْفَ تَسْتَعْمِلُ الدِّبلوماسيَّةُ المَغْرِبِيَّةُ الفُنونَ، مِن موسيقى وتُّراثٍ حَسّانِيّ، لِتَعْزِيزِ صُورَةِ المَمْلَكَةِ فِي الفَضاءِ الأوروبِّيِّ، وَلِتَثبِيتِهَا كَشَرِيكٍ ثَقافِيٍّ يُراهنُ على التَّنوُّعِ والانْفِتاحِ.
هَذهِ المَواعِيدُ الثلاثَةُ تُجَسِّدُ أَطْوارَ «الجُغْرافِيَا الثَّقافِيَّةِ» الجَدِيدَةِ: مِن مَدِينَةٍ ساحلِيَّةٍ صَغِيرَةٍ تُفَكِّرُ في العالَمِ، إلى حاضِرَةٍ اقتِصادِيَّةٍ تُجَرِّبُ فُنونًا مُعاصِرَةً، إلى فَضاءٍ أوروبِّيٍّ يَحْتَفِي بِالمغربِ كَذاكِرَةٍ مُشْتَرَكَةٍ.
6. المَعرِضُ الدَّوْلِيُّ للنَّشْرِ والكِتابِ… حِينَ يَصِيرُ المُغْتَرِبُونَ فَاعِلِين
يُضيفُ المعرضُ الدَّوْلِيُّ للنَّشرِ والكِتابِ (SIEL) وَجْهًا آخَرَ لهذا المشهدِ، مِن خِلالِ تَسْلِيطِ الضَّوْءِ على دَوْرِ المَغارِبَةِ المقيمين بالخارج، كما يَسْتَشْفُّ مِن حِوارِ دُرِّيس اليزّامي حَوْلَ مَكَانَتِهِم كَـ«فاعِلِينَ أَساسِيِّينَ في الثَّقافَةِ المَغْرِبِيَّةِ». فَهَؤُلاءِ يُساهِمونَ في السِّينِما والرِّوايَةِ والفُنونِ البَصَرِيَّةِ، ويَحْمِلُونَ معهم نَظْرَةَ «الهوِيَّةِ المُرَكَّبَةِ» الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ تَجْرِبَةِ الهِجْرَةِ والانْتِماءِ لِفَضاءَيْنِ فِي آنٍ واحِدٍ.
هُنَا يَظْهَرُ جِيلٌ مِن «المُثَقَّفِينَ العَبْر-وَطَنِيِّينَ» الَّذِينَ يَكْتُبُونَ مِن باريس وبروكسيل ومونتريال، لكنَّ نُصوصَهُمْ وأعْمالَهُمْ الفنِّيَّةَ تَبْقَى مَشدودَةً إلى تَضارِيسِ الطُّفولَةِ المَغْرِبِيَّةِ، وإلى تَحوُّلاتِ البِلادِ الاِجْتِماعِيَّةِ والسِّياسِيَّةِ. وهَذا يَفْتَحُ سُؤالًا حَوْلَ الحاجَةِ إلى سِياسَةٍ ثَقافِيَّةٍ تُدْمِجُ هَذا الرَّأْسمالِ الرَّمْزِيَّ في مَشاريعِ التَّرْجَمَةِ والدِّبلوماسيَّةِ الثَّقافِيَّةِ.
7. بينَ السِّياسَةِ الثَّقافِيَّةِ والإبْداعِ الحرّ… تَوَتُّرٌ خَلّاقٌ؟
جَمِيعُ الأَخْبارِ المُشارِ إِلَيْها تُؤَشِّرُ إلى حَرَكَةٍ قَوِيَّةٍ في السِّياسَةِ الثَّقافِيَّةِ المَغْرِبِيَّةِ: دَعْمٌ مالِيٌّ مُتَزايِدٌ، بَرَامِجُ تَكوينٍ وتَطْوِيرٍ، مَواعِيدُ ومَعارِضُ وفَضَاءاتٌ جَدِيدَةٌ. غَيْرَ أَنَّ السُّؤالَ الَّذِي يَبْقَى مَطْروحًا هُوَ: كَيْفَ يَتَقَاطَعُ هَذا كُلُّهُ مَعَ حُرِّيَّةِ الإبْداعِ، وَمَعَ قُدْرَةِ المَشْهَدِ الثَّقافِيِّ عَلَى مُسَاءَلَةِ نَفْسِهِ ونِظامِهِ السِّياسِيِّ والاجْتِماعِيِّ؟
مِن جِهَةٍ، يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ إِنَّ دَعْمَ المَهْرَجاناتِ والفُنونِ والتُّراثِ يُؤَسِّسُ لِبِناءِ «بِنْيَةٍ تَحْتِيَّةٍ» لا غِنَى عَنْها لِأَيِّ حَرَكَةٍ إبْداعِيَّةٍ جَدِيدَةٍ. ومِن جِهَةٍ أُخْرَى، يَبْقَى مَطْلُوبًا أَلَّا تَتَحَوَّلَ هَذِهِ السِّياسَةُ إلى «اِحْتِكارٍ ناعِمٍ» لِلْفَضاءِ الثَّقافِيِّ، يُكافِئُ الأَصْواتَ المُنْسَجِمَةَ ويُهَمِّشُ الأصْواتَ النَّقْدِيَّةَ.
هُنا تَتَجَلَّى أَهَمِّيَّةُ حُضُورِ أَصْواتٍ شِعْرِيَّةٍ ونَقْدِيَّةٍ حُرَّةٍ، مِثْلِ ما يُوحِي بِهِ حِوارُ الشَّاعِرِ العِراقِيِّ حَمِيد سَعِيد بِمُنَاسَبَةِ تَتَوِيجِهِ بِجائِزَةِ سُلطانِ العويس الثَّقافِيَّةِ، حَيْثُ يُثيرُ أَسْئِلَةَ الاِلتِزامِ والأيديولوجيا، والضَّغْطِ السِّياسِيِّ على الإبْداعِ، ومَخاطِرَ تَحويلِ الشِّعْرِ إلى صَوْتٍ دِعائِيٍّ
رُبَّمَا يَكُونُ الدَّرْسُ هُنا أَنَّ حَيويةَ المَشْهَدِ الثَّقافِيِّ لا تُقَاسُ بِحَجْمِ الدَّعْمِ فَقَط، بَل بِقُدْرَةِ الفُنَّانِينَ والكُتّابِ على الاِسْتِفادَةِ مِن هَذِهِ البِنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ لِإِنْتاجِ أَشْكالٍ جَدِيدَةٍ مِن السُّؤالِ والنَّقْدِ والمُخَاطَرةِ الجَماليَّةِ.
8. خُلاصَةٌ: نَحْوَ أُفُقٍ ثَقافِيٍّ جَدِيدٍ
ما تَكْشِفُهُ هَذِهِ اللوحَةُ هُوَ أَنَّ المَغْرِبَ يَدْخُلُ مَرْحَلَةً جَدِيدَةً مِن التَّفْكِيرِ في الثَّقافَةِ كَـ«مَشْروعٍ» لا كَـ«مَلْحَقٍ»؛ مَشْروعٍ يَتَضَمَّنُ:
-
دَعْمًا مالِيًّا مُنَظَّمًا لِلمَهْرَجاناتِ والمشاريعِ الثَّقافِيَّةِ.
-
تَثمينًا لِلتُّراثِ المادِّيِّ واللامادِّيِّ عَبْرَ بَرَامِجِ «الكُنوزِ البَشَرِيَّةِ الحَيَّةِ» والتُّراثِ الرَّقْمِيِّ.
-
رِهانًا على تَكوينِ الشَّبابِ في الفُنونِ التَّشْكِيلِيَّةِ والرَّقْمِيَّةِ.
-
دِبلوماسيَّةً ثَقافِيَّةً تَسْتَعْمِلُ المَهْرَجاناتِ والأَيّامَ الثَّقافِيَّةَ في أوروبا وأفريقيا لِتَعْزِيزِ صورةِ المَغْرِبِ كَشَريكٍ ثقافِيٍّ مُنْفَتِحٍ.
-
اِعْتِرافًا مُتَزايدًا بدَوْرِ المَغارِبَةِ المقيمين بالخارجِ في صِياغَةِ الحُضُورِ الثَّقافِيِّ للمَمْلَكَةِ.
في مُوازاةِ ذَلِكَ، يَبْقَى التَّحَدِّي الحَقِيقِيُّ هوَ في بِنَاءِ جِسْرٍ أَمِينٍ بَيْنَ هَذِهِ السِّياسَاتِ ومُخْتَلِفِ الطَّبَقاتِ والجُغْرافِيَاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ: كَيْفَ نَضْمَنُ أَلَّا تَبْقَى الفُنونُ وَحْكًا على المُدُنِ الكُبرى؟ كَيْفَ نُقَرِّبُ بَرَامِجَ التَّكوينِ والدَّعْمِ مِن شَبابِ القُرى والهامِشِ؟ وكيف نَفْتَحُ المَسارَ أَمامَ الإبْداعِ الحُرِّ الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقولَ «لا» وأن يَقْتَرِحَ مَساراتٍ مُخالِفَةً؟
المَغْرِبُ، كما تَعْكِسُهُ هَذِهِ الرّصْدِيَّةُ، يَقِفُ عَلَى أَبْوابِ أُفُقٍ ثَقافِيٍّ واعدٍ؛ أُفُقٍ يُمْكِنُ أَنْ يُحَوِّلَ الفُنونَ والآدابَ والتُّراثَ إلى طاقَةٍ تَنْميةٍ وهُوِيَّةٍ مُعاصِرَةٍ، شَرْطَ أَنْ يَظَلَّ الإبْداعُ حُرًّا، والنَّقْدُ مُمْكِنًا، والحِوارُ مَفْتوحًا بَيْنَ الدَّوْلَةِ والمُبْدِعِ والجُمْهورِ.
بقلم: عبده حَقِّي







0 التعليقات:
إرسال تعليق