تحتلّ العلاقة بين الفن والتأويل موقعاً مركزياً في البحث الجمالي المعاصر، إذ تُعدّ أحد أهم المداخل لفهم كيفية تشكّل المعنى في الإبداع البصري واللغوي، وكيفية تفاعل المتلقي مع العمل الفني بوصفه نصاً مفتوحاً على احتمالات متعددة. فالعمل الفني، سواء أكان لوحة تشكيلية أو نصاً سردياً أو مقطوعة موسيقية، لا يُختزل في بنيته الداخلية، بل يتجاوزها إلى فضاء تأويلي يتشكل تاريخياً وثقافياً عبر أجيال من القرّاء والنقاد والمشاهدين. ومن هذا المنظور، تندرج دراسة التأويل في الفن ضمن الحقول التي تربط الجمالي بالفلسفي وبالأنثروبولوجي، إذ يصبح العمل الفني حدثاً معرفياً وثقافياً وليس مجرّد موضوع بصري أو لغوي مستقل.
1. العمل الفني باعتباره نظاماً دلالياً متعدد الطبقات
لا يقدّم العمل الفني معنى واحداً مغلقاً؛ بل ينفتح على مستويات دلالية تتداخل فيها البنية الشكلية مع المضمون الرمزي والسياق التاريخي والتجربة الذاتية للفنان والمتلقي. ما يجعل الفن مختلفاً عن النصوص العلمية أو الخطابات التفسيرية هو أن الدلالة فيه ليست معلنة بالكامل، بل موزّعة على طبقات.
فعلى سبيل المثال، لا تُقرأ “غيرنيكا” لبيكاسو بوصفها مجرد لوحة تُجسّد بشاعة الحرب الإسبانية، بل باعتبارها أيضاً وثيقة بصرية تُعبّر عن خوف إنساني جماعي، وعن انهيار نموذج العالم القديم، وعن تحوّل الفن الحديث نحو التجريد التعبيري. وكل طبقة من هذه الطبقات تتيح مستوى مختلفاً من التأويل، ما يجعل اللوحة قابلة للقراءة في السياقات السياسية والثقافية والفلسفية نفسها.
هذا التعدد الدلالي هو ما دفع رولان بارت إلى إعلان “موت المؤلف” بوصفه شرطاً لانطلاق “ولادة القارئ”[1]، أي ملء فراغ المعنى من قبل المتلقي الذي يحمّل العمل الفني رؤيته الخاصة. ومع ذلك، يبقى المؤلف أو الفنان حاضراً بطريقة ما في أثره الجمالي، وإنْ من وراء ستار، في ما سماه بول ريكور “الذات المتخلّية في النص”[2].
2. التلقي بوصفه ممارسة تأويلية
لا يكتمل الوجود الدلالي للعمل الفني إلا حين يدخل المتلقي في عملية فهم تفاعلية معه. فالفن لا يُدرَك بصفته صورة أو شكلاً فحسب، بل بوصفه تجربة: تجربة بصرية أو سمعية أو لغوية تؤثر في الوعي وتعيد تشكيله. وتأسيساً على تأويلية هانس-غيورغ غادامر، يصبح الفهم الجمالي عملية “اندماج آفاق”[3] بين أفق العمل وأفق المتلقي، وهو اندماج يتجاوز النقل المعرفي إلى إنتاج معنى جديد ناتج عن الحوار بين الطرفين.
إن هذا الفهم يفتح المجال أمام تعددية القراءات. فما يراه متلقٍ ينتمي إلى سياق اجتماعي معين قد يختلف تماماً عمّا يراه متلقٍ آخر ينتمي لثقافة مغايرة، حتى وإن نظر الاثنان إلى العمل الفني نفسه. وهكذا تتحول الاستجابة الجمالية إلى فعل ثقافي يشكّل هوية المتلقي بقدر ما يشكّل دلالة العمل نفسه.
3. النقد والمدارس التأويلية
ساهمت المدارس النقدية الحديثة في تعميق سؤال التأويل، كل من زاويته الخاصة. فالشكلانيون، مثل رومان جاكبسون، ركّزوا على بنية النص الفنية وتماسكه الداخلي، معتبرين أن المعنى ينبع أساساً من العلاقات اللغوية أو الشكلية نفسها[4]. بينما رأى البنيويون أن العمل الفني جزء من منظومة من العلامات والرموز، لا يمكن فهمه خارج شبكته الثقافية والاجتماعية.
أما ما بعد الحداثيين، وأبرزهم جاك دريدا، فقد جادلوا بأن المعنى غير مستقر، وأن كل نص يحمل داخله بذور تفكيكه[5]. وهذا يعني أن العمل الفني يظل مفتوحاً على قراءات لا نهائية، ما دام المتلقي يعيد إنتاجه باستمرار.
ويقدّم النقد الظاهراتي (الفينومينولوجي) بدوره بُعداً آخر، إذ يرى أن التجربة المباشرة للمتلقي هي أساس التأويل. فالفهم ليس فقط عملية عقلية، بل أيضاً عاطفية وحسيّة، حيث تلعب المشاعر والانفعالات دوراً مركزياً في تشكيل المعنى.
4. الانفعال الجمالي والعقل التأويلي
قد يتجلى الأثر الجمالي أحياناً قبل الفهم العقلي. فالمتلقي قد يشعر بالدهشة أو الحزن أو القلق قبل أن يكون قادراً على تفسير سبب هذا الشعور. وبالتالي يصبح الانفعال خطوة أولى في السلم التأويلي، وليس مجرد نتيجة لاحقة للفهم. هذا ما أشار إليه الفيلسوف جون ديوي في كتابه "الفن كخبرة"[6]، حيث يرى أن التجربة الجمالية هي وحدة متكاملة من الإحساس والمعرفة.
وتظهر هذه الفكرة بوضوح في الموسيقى التي تُحرك المشاعر دون وسيط لغوي واضح، وفي الشعر الذي يتحكم إيقاعه وصوره في الاستجابة العاطفية قبل أن يُحكِم المتلقي قراءته العقلانية.
5. التاريخ والذاكرة بوصفهما فاعلين في التأويل
لا يمكن فصل العمل الفني عن زمن إنتاجه، كما لا يمكن فصل المتلقي عن زمن تلقيه. فالتاريخ والذاكرة يشكّلان إطاراً ضرورياً للتأويل. فالأعمال العظيمة، سواء في الأدب أو الرسم أو الفلسفة، هي التي استطاعت تجاوز سياقها الأول لتصبح جزءاً من الذاكرة الثقافية للإنسانية. ومن هنا تتجدد قراءتها في كل عصر وفق تغير القيم الجمالية والمعرفية.
فالفن يحتفظ بحضوره المادي، لكن دلالته لا تتوقف عن التحول. كل جيل يعيد صياغة معانيه وفق أسئلته الخاصة، وهو ما يجعل التأويل ممارسة تاريخية وليست نقدية فقط.
6. نحو مفهوم شامل للتأويل الجمالي
يمكن القول إن التأويل في الفن يقوم على ثلاثة مبادئ أساسية:
-
انفتاح معنى العمل الفني
الدلالة ليست ثابتة ولا مغلقة، بل تتولد باستمرار من عملية التفاعل. -
مركزية المتلقي في إنتاج المعنى
الفهم ليس استرجاعاً للمعنى بل توليد له. -
جدلية العلاقة بين الشكل والسياق
لا البنية وحدها تكفي، ولا السياق وحده يفسّر؛ بل يتكوّن المعنى من تداخل الاثنين.
وبذلك يصبح الفن مجالاً لإنتاج معرفة حسية وعقلية معاً، ويغدو التأويل ممارسة تأملية تُظهر أن المعنى في الفن ليس معطى مسبقاً، بل تجربة مشتركة بين العمل والمتلقي والثقافة.
الهوامش
[1] Roland Barthes, The Death of the Author, 1967.
[2] Paul Ricoeur, Interpretation Theory: Discourse and the Surplus of Meaning, 1976.
[3] Hans-Georg Gadamer, Truth and Method, 1960.
[4] Roman Jakobson, Linguistics and Poetics, 1960.
[5] Jacques Derrida, Of Grammatology, 1967.
[6] John Dewey, Art as Experience, 1934.







0 التعليقات:
إرسال تعليق