الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، نوفمبر 10، 2025

قراءة في كتاب هنري جنكينز “ثقافة التلاقي” عبده حقي

 


يمثّل كتاب الناقد والإعلامي الأمريكي هنري جنكينز “ثقافة التلاقي” واحداً من أهم الأعمال المعاصرة التي أسهمت في إعادة تشكيل فهم العلاقة بين الإعلام الرقمي، وصناعة الثقافة الجماهيرية، وسلوك الجمهور في زمن التحوّلات التقنية. منذ صدوره في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، صار هذا الكتاب مرجعاً أساسياً في دراسات الإعلام الرقمي، لأنه لم يكتف بتوصيف التحوّلات، بل قدّم إطاراً نظرياً متماسكاً يفسّر كيف تتقاطع الوسائط المختلفة في إنتاج ثقافة جديدة لا تتحكم فيها المؤسسات وحدها، بل يشارك الجمهور نفسه في صنعها.

يعتمد جنكينز على مفهوم “التلاقي” ليصف لحظة تاريخية تتداخل فيها التلفزة، السينما، الإعلام الرقمي، الألعاب الإلكترونية، ومنصات التواصل، داخل منظومة سردية واقتصادية واحدة. فالعالم لم يعد مقسوماً بين وسيلة “قديمة” وأخرى “جديدة”، بل صار فضاءً هجيناً تتحرك فيه القصص عبر منصات متعددة. هذه الفكرة تمنح الكتاب قوة تفسيرية مهمة، لأنها تنقل النقاش من ثنائية “الجديد” و“القديم” إلى دينامية التفاعل والتكامل بين الوسائط.

يبيّن الكاتب، من خلال أمثلة مأخوذة من الثقافة الشعبية الأمريكية، أن الجمهور لم يعد مستهلكاً سلبياً للمحتوى كما كان يُفترض سابقاً. بل أصبح جمهوراً “مشاركاً”، يعيد إنتاج الخطاب، ويوسّع عالم الحكاية، ويخلق سرديات موازية من خلال المنتديات الرقمية والفان فيكشن والريمكس الثقافي. هنا يؤكد جنكينز أن المشاركة ليست مجرد ظاهرة هامشية، بل هي عنصر جوهري يغيّر طبيعة السلطة الثقافية، ويوزّعها بين المنتج والمؤسسة والمتلقي، بدرجات مختلفة.

ورغم حماسة جنكينز لهذا التحوّل، لا يغفل الجانب الاقتصادي والسياسي لثقافة التلاقي. فالفضاء الرقمي، رغم ظاهره المفتوح، ما يزال محكوماً بهيمنة الشركات الكبرى، التي تستثمر في سلوك الجمهور، وتوجّهه أحياناً. لذلك تبدو أطروحة جنكينز مزدوجة: فهي تحتفي بالإمكانات التحرّرية للثقافة الرقمية، ولكنها لا تتجاهل حدودها التي تفرضها الصناعات الإعلامية الاحتكارية.

كما يتوقف الكتاب عند العلاقة بين “العوالم السردية” و“الانتشار الرقمي”، موضحاً كيف تغيّر مفهوم القصة نفسها في العصر الرقمي، بحيث لم تعد حكراً على وسيط واحد أو مؤلف واحد، بل صارت نظاماً مفتوحاً يحتمل الامتداد والتفريغ وإعادة التأويل عبر وسائط كثيرة. وهنا تظهر أهمية الكتاب بالنسبة للباحثين في الأدب الرقمي والدراسات السردية، لأنه يقدّم مفهوماً يعمل على تقويض التصور التقليدي للنص، ويستبدله بفضاء سردي يتسع للمشاركة واللعب والتعديل الجماعي.

تتميّز لغة جنكينز بالوضوح والعمق معاً، إذ يجمع بين التحليل الثقافي والدراسة الميدانية، مستنداً إلى أمثلة من الإعلام الواقعي، مثل حملات المسلسلات التلفزية الكبرى، وتحولات جمهور الألعاب، ونماذج الترويج الإلكتروني. هذه الأمثلة تمنح النظرية قابلية للتطبيق، وتجعل الكتاب أكثر قرباً من القارئ المتخصص والمهتم بالشأن الإعلامي.

لكن رغم قوة الكتاب، يلاحظ بعض النقاد أن جنكينز يميل أحياناً إلى التفاؤل المفرط بقدرة الجمهور على التأثير، متجاهلاً التفاوت الكبير في الوصول إلى التكنولوجيا، أو هيمنة الشركات العملاقة على البنى التحتية الرقمية. كما يرى آخرون أن مفهوم “التلاقي” يحتاج أحياناً إلى مزيد من التفكيك، لأن كثافته النظرية قد تجعل تطبيقه على بعض الحالات أقل دقة.

مع ذلك، يبقى “ثقافة التلاقي” نصاً تأسيسياً، ليس فقط لأنه يشرح ظاهرة جديدة، بل لأنه يبني جسراً بين دراسات الإعلام التقليدي والدراسات الرقمية. فهو كتاب يقدّم نموذجاً لفهم ما يجري داخل الثقافة العالمية اليوم، حيث تتشابك الحكايات، وتتحرك الرموز عبر شاشات مختلفة، ويتحوّل الجمهور من مستهلك إلى فاعل ثقافي له حضوره وتأثيره.

وباختصار، فإن كتاب هنري جنكينز يمثل مرجعاً لا غنى عنه لكل باحث أو كاتب أو صحافي يرغب في فهم طبيعة التحوّلات التي أعادت رسم خريطة الإعلام والثقافة في العقدين الأخيرين. إنه كتاب يضيء الماضي، ويفسّر الحاضر، ويقدّم أدوات لفهم المستقبل في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا بأكثر مما تتسارع القدرة البشرية على المتابعة.

0 التعليقات: