لم أجد، وأنا أتصفّح دفاتر الرياضيات العتيقة، ما يوقظ فيّ دهشة المعرفة مثل تلك الصفحات التي تركها لنا برنارد بولتسانو. رجلٌ لم يكن يطارد الأرقام بقدر ما كان يطارد سرَّها… ذلك الخيط الرفيع الذي يجعل الحقيقة الرياضية تبدو، أحياناً، كما لو أنّها تنبثق من مكانٍ غير منظور. شيء أشبه بنقطة ضوء تلمع على حافة فراغ.
بولتسانو لم يكن رياضيًّا فقط، بل كان أقرب ما يكون إلى ناسكٍ يكتب في كنف العزلة. كان يؤمن أنّ المعرفة لا تُنتزع من العالم، بل تُنتزع من العقل ذاته؛ وأنّ البرهان ليس حركة جامدة، بل مغامرة، يبدأ فيها الفكرُ بالسير وحيدًا، متردّد الخطوات، قبل أن يستقيم الطريق فجأة، ويظهر الحلّ كما تُفتح نافذة بعد ليلٍ طويل.
حين تحدّث عن الحقيقة الرياضية، لم يعاملها كما يتعامل النحّات مع الحجر، بل كما يتعامل راعٍ عجوز مع قطيعٍ يعرفه جيّدًا: معرفةٌ هادئة، لا تحتاج صخبًا ولا ادعاء. كان يقول، بطريقةٍ تبدو بسيطة حدّ المكر، إنّ الحقيقة “هناك” حتى قبل أن نكتشفها. نحن لا نخترع الأعداد، نحن فقط نتعثّر بها في طريقنا.
ولعلّ ما جعل أفكاره تصمد، رغم صمت حياته، هو إصراره على فصل “الفكرة” عن “الفاهم”. فالمعرفة الرياضية عنده تُشبه ورقةً تطفو فوق ماءٍ راكد. الورقة موجودة، مستقلة، لا يهمّ من يراها أو من يتجاهلها. وهذا التصوّر الغريب، البعيد عن التقليد، هو الذي أهدى الفلسفة لاحقًا ذلك النقاش العميق حول طبيعة الموضوعات المجرّدة: هل توجد خارج الذهن أم داخله؟ وهل نصل إليها بالحدس أم بالمنطق؟
وكلّما تقدّمتُ أكثر في قراءة عمله، انتبهتُ إلى شيء لم أره من قبل: كان بولتسانو يقاوم، بطريقة هادئة وعنيفة في آن، تلك القناعة القديمة بأنّ الرياضيات لغة باردة. كأنه يهمس للقارئ: “لا تصدّقوا… خلف كلّ تعريفٍ هندسيٍّ قلبٌ يخفق، وخلف كلّ نظريةٍ حكايةٌ لم تُحكَ.”
ولأكون صريحًا، ربما لم يُنصفه عصره. فقد عاش في زمنٍ يميل إلى الاحتفاء بالصوت الأعلى لا بالفكرة الأعمق. لكن أفكاره عادت بعد عقود طويلة، كما يعود كتابٌ سقط خلف رفوف مكتبة، فتمسح عنه الغبار لتكتشف أنّه لا يزال جديدًا، كأنّه كُتب البارحة.
هكذا هو بولتسانو: لا يقدّم لنا رياضيات فقط، بل يقدّم لنا درسًا في الإصغاء… الإصغاء إلى المعرفة حين تخطّ خطواتها الأولى، المرتبكة، قبل أن تُصبح برهانًا صلبًا يُعلَّم في الجامعات.
ربما لهذا السبب يبدو لقاؤنا به اليوم لقاءً متأخّرًا، لكنه ضروري. فالعالم غارقٌ في الضجيج، بينما الحقيقة الرياضية – في نظر بولتسانو – لا تُدرك إلا حين نُصغي جيّدًا، كما نصغي إلى ورقةٍ تسقط على الأرض.








0 التعليقات:
إرسال تعليق