لا أعرف لماذا كلّما عدتُ إلى كتاب Here Comes Everybody أحسستُ أنّني لا أقرأه بقدر ما أسمع صوته. صوتُ زمنٍ يتغيّر من تحت أقدامنا، كأنّ شيركي لا يقدّم “نظرية” بقدر ما يدوّن ارتباكه الشخصي أمام عالمٍ لم يعد يعرفُ أحد كيف يضبط إيقاعه. إنّ هذا الكتاب، الذي صار يُعدّ مرجعاً أساسياً لفهم تحوّل المجتمعات تحت تأثير التكنولوجيا الرقمية، ليس مجرد دراسة أكاديمية جافة، بل هو – في جوهره – تأمل طويل في معنى أن تتجمع الجماهير اليوم بلا قيادة، بلا ترخيص، وبلا انتظار إذن من أحد.
يبدأ شيركي من الفكرة البسيطة التي يتجاهلها الكثيرون: أنّ العالم الرقمي لم يغيّر أدواتنا فقط، بل فكّك السقوف القديمة التي كانت تحدد من يحقّ له الكلام ومن لا يحقّ له ذلك. فجأة أصبح أيّ فرد – مهما كان موقعه في الهامش – قادراً على خلق موجة رأي قد تُربك مؤسسات عملاقة ببطء ديناصوري. هذا التفكك في احتكار السلطة الرمزية هو ما يسميه شيركي «انهيار التكاليف التنظيمية»، أي لحظة الانفصال بين القدرة على التنظيم والرأس المال الذي كان ضرورياً في الماضي.
وفي كلّ صفحة تقريباً، يقدّم الكتاب أمثلة واقعية تُشبه الشرارات التي تخرج من احتكاك عالمين: عالمٌ يتهاوى وآخر يصعد، دون أن نعرف هل الصعود نعمة أم فوضى. هناك تلك القصص التي يرويها الكاتب عن مبادرات بدأت فردية، صغيرة، غاضبة، ثمّ تحولت خلال ساعات إلى حملات ضخمة تُجبر حكومات وشركات على التراجع أو الاعتذار. وهذه الأمثلة ليست مجرّد حكايات توثيقية، بل رسائل صامتة تقول إنّ «الجميع» صار ممكناً، وأنّ «القليل» لم يعد قادراً على التحكم في «الكثير».
لكنّ الكتاب ليس احتفالاً عاطفياً بالمجتمع الرقمي. بل فيه نوع من التحفّظ القَلِق. شيركي يذكّرنا بأن انهيار احتكار المؤسسات لا يعني بالضرورة قيام عالم أفضل؛ فكما تسهّل التكنولوجيا التنظيم المدني، فهي أيضاً تفتح الباب واسعاً أمام التضليل، والهلع الجماعي، وصناعة السرديات السطحية التي تتغذّى على سرعة المشاركة أكثر مما تتغذى على عمق الفهم. وكأنّه يريد أن يقول إنّ دخول «الجميع» إلى الساحة قد يكون خلاصاً… وقد يكون بداية ضوضاء لا يمكن إيقافها.
في خلاصة الأمر، يبدو كتاب شيركي محاولة لفهم “مجتمعات الشبكة” قبل أن تتشكّل صورتها النهائية. إنّه كتاب كُتب في لحظة انتقالية، لذلك تشعر أنه يمسك الحبل من طرفيه: طرف التفاؤل بقوة التعاون الشعبي، وطرف الخشية من فوضى بلا ملامح. وما يجعل الكتاب حيّاً حتى اليوم هو أنّ كلّ صفحاته تقريباً لا تزال تُطرح كأطروحات مفتوحة، لا كحقائق نهائية. ولعلّ القيمة الأعمق لهذا العمل تكمن في أنه يذكّرنا بأننا لسنا مجرد مستخدمين للتكنولوجيا، بل مشاركون في إعادة تشكيل معنى الجماعة نفسها.







0 التعليقات:
إرسال تعليق