الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، ديسمبر 11، 2025

الجزائر.. أصواتٌ تتقاطع فوق رمالٍ تتحرّك: عبده حقي

 


لم تعد الأيام في الجزائر تمرّ بالبطء القديم نفسه. هناك شيء يشبه الارتجاج الهادئ تحت السطح، يكفي أن يقترب المرء قليلًا من المشهد حتى يلمح خطوطًا متشابكة، بعضها يلمع كالسيوف المرفوعة، وبعضها غامض كأوراقٍ تحت الضوء الخافت. ومن بين كل ما يتناقل من أخبار، تبرز قصة الجنرال عبد الحميد غريس، الذي وُجد فجأة بين الحياة والموت، كأن جسده أصبح ساحة أخرى لصراع لا يريد أحد الاعتراف به علنًا. ليس من الهين أن يصل رجل في مكانته إلى هذا المصير من دون أن يكون وراء ذلك صراعٌ ما، أو تصفية حسابات يفضّل أصحابها الصمت. هكذا على الأقل فهم كثيرون الحكاية، وبدأوا ينسجون منها أسئلة أكثر مما ينسجون أجوبة.

وفي موازاة هذه الحادثة الثقيلة، راحت علاقة الجزائر بفرنسا تتخذ مسارًا أكثر توترًا. ليس جديدًا أن يتعكر المزاج بين البلدين، لكنّ الأيام الأخيرة بدت كأنها كشفت هوّة لا تزال تتسع، هوّة تتداخل فيها الذاكرة بالسياسة، واللغة بالمصالح، والوعي الشعبي بضغوط الحكّام. التحليلات التي خرجت إلى العلن بدت أحيانًا أقرب إلى عملية «فضح» مكتومة، أو إلى اعترافاتٍ يراد لها أن تسمع في الداخل أكثر مما يراد لها أن تصل إلى باريس. ولأنّ السياسة الخارجية كثيرًا ما تكون امتدادًا للمطبخ الداخلي، فإنّ ما يُقال عن فرنسا يشبه مرآة عاكسة لما لا يستطيع النظام قوله عن نفسه.

ثم جاءت قضية اعتقال مهدي غزار في باريس لتفتح بابًا آخر من الأبواب التي لا تُغلق بسهولة. ليس الاعتقال هو ما صدم الناس، بل ذلك الالتباس غير المريح في تفسيره. هل كان الأمر إجراءً اعتياديًا؟ أم أنّ باريس تجاوبت مع رغبة جزائرية مكتومة؟ أم أنّ بعض الأطراف وجدوا في توقيف الرجل فرصة لتصفية حسابات قديمة؟ أسئلة كهذه لا تُطرح عبثًا. فالمعارضة الجزائرية في الخارج لم تعد مجرد أصوات منفلتة، بل أصبحت شيئًا يشبه «البديل المكبوت» الذي تخشى السلطة الاعتراف بوجوده.

غير أن أكثر المفاجآت إثارة كان قرار إطلاق سراح معتقلين سياسيين، بينهم نشطاء من الحركة المعروفة بـ«MAK». وقد بدا المشهد كمن يفتح نافذة ضيقة في جدار سميك. الناس رحبوا، لكنّ الترحيب لم يخفِ تلك النظرة المتسائلة: هل نحن أمام انفراج حقيقي، أم أمام هدنة قصيرة تُمليها الحسابات؟ كثيرون قالوا إنها مناورة محسوبة، وأنّ السلطة لا تزال ترى في الحريات خطرًا لا يمكن التهاون معه. آخرون وجدوا في الأمر بادرة، مهما صغر حجمها، تستحق التقاطها كخيط قد يقود إلى طريق أوسع.

وبينما تدور هذه التحولات السياسية، كانت الجبهة الاقتصادية تتلقى الضربات الواحدة تلو الأخرى. الحديث عن تراجع الاستثمارات، ثم عن مشاريع توقفت أو تعطّلت، وعن شلل إداري يزداد ثقلًا، وعن دينار يفقد قيمته مثل ورقة تُبللها الأمطار… كل هذا جعل الجزائريين يتساءلون عن معنى الدولة حين يصبح الاقتصاد مثل بيتٍ بلا أبواب. كيف يمكن لبلد بهذا الحجم وهذه الثروات أن يجد نفسه في مأزق يضيق يومًا بعد يوم؟ الجواب لا يكمن في السوق وحدها، بل في طريقة الحكم، في غياب الرؤية، وفي تلك الحروب الصغيرة التي يأكل بعضها بعضًا داخل أجهزة صنع القرار.

ولأنّ السياسة في الجزائر لا تنفصل عن الأمن، فقد أثار تعيين مسؤول جديد في الاستخبارات موجة أخرى من الجدل. التعيينات الأمنية هنا ليست مجرد تدوير مناصب، بل رسائل مشفّرة، بعضها موجّه إلى الداخل وبعضها إلى الخارج، وبعضها إلى داخل الداخل نفسه. يقرأ الناس هذه التحولات كأنهم يقرأون جريدة سرية: من تراجع؟ من صعد؟ من يقود حاليًا الدفّة؟ وما إذا كان ميزان القوى في المؤسسة العسكرية يُعاد ترتيبه تحت الطاولة.

ومهما حاول المراقبون تجنب الحديث عن المغرب، فإن العلاقة المتوترة بين البلدين تظل ظلًا لا يغادر المشهد. ملف الصحراء، مثل حجر ثقيل في قلب السياسة الجزائرية، يجرّ خلفه صدىً لا ينتهي. تُستخدم القضية لتفسير كل شيء تقريبًا، من المعارضة إلى الاقتصاد، ومن الأمن الداخلي إلى الدبلوماسية. وإلى جانب هذا الملف، يظلّ موضوع «التيار الانفصالي» في منطقة القبائل ورقة حاضرة في كل خطاب رسمي تقريبًا، كأن الجزائر تحتاج دائمًا إلى خصم خارجي أو داخلي يشدّ الجمهور نحو فكرة «الخطر القادم»، حتى وإن كان هذا الخطر يتغير اسمه كل سنة.

وفي نهاية هذا المشهد الطويل المتشابك، يبقى الشعور الغالب أن الجزائر تقف اليوم عند نقطة حساسة، ليست قريبة تمامًا من الانهيار، ولا هي في طريق مستقيم نحو الإصلاح. شيء بين الاثنين، شيء يشبه الانتظار، لكن انتظارًا مقلقًا، مليئًا بالأسئلة التي لا يُجاب عنها. الناس يرون ما يجري، يلمحون الصراع من بعيد، يسمعون ما يُقال وما لا يُقال، ويبحثون عن أفق لا يزال غائمًا، أفق يتأرجح بين رغبة في التغيير وخوف من ثمن التغيير.

قد تتنفس الجزائر قليلًا، وقد تضيق أكثر. قد تنفتح نافذة ثانية، أو تُغلق النافذة الأولى بالكامل. كل شيء محتمل. لكن ما يبدو مؤكدًا هو أنّ البلد دخل مرحلة لا يمكن العودة منها بسهولة، مرحلة يختلط فيها صوت الدولة بصوت الشارع، وصوت الأجهزة بصوت الحلقات الإعلامية التي تكشف ما حاولت السلطة إخفاءه طويلًا.
ولعلّ أخطر ما في الأزمنة الرمادية، هو أنها لا تعلن نهايتها. بل تتركنا نمشي فيها، نحاول أن نفهم الطريق بينما الطريق ذاته يتغير تحت أقدامنا.

0 التعليقات: