الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، ديسمبر 11، 2025

خرائط الإصدارات الجديدة من الرباط إلى بيروت»

 


يبدو المشهد العربي للكتاب، للوهلة الأولى، محاصَراً بالأزمات: تضخّم، حروب، أزمات توزيع، وتراجع مؤشّرات القراءة في أكثر من بلد. لكن نظرةً أدقّ إلى ما تنشره اليوم دور النشر العربية، وما ترصده منصّات ثقافية مثل «ضفّة ثالثة» وملحق «ثقافة» في القدس العربي، تكشف عن حيويةٍ عنيدة، ترفض أن تُعلن موت الكتاب، وتصرّ على فتح “ضفّة ثالثة” يتجاور فيها الورقي والرقمي، المحلي والعابر للحدود.

المغرب: دور نشر متجذّرة وإصدارات تلامس الأسئلة الكبرى

في المغرب، تبدو خارطة النشر أشبه بشبكةٍ من البيوت العريقة التي راكمت تقاليد طويلة في صناعة الكتاب، مثل المركز الثقافي العربي، منشورات توبقال، أفريقيا الشرق، منشورات المركز الثقافي للكتاب، ودار الفنك، إلى جانب دور عربية فاعلة تنشط داخل السوق المغربية. هذه الدور لا تكتفي بإعادة طباعة ما نجح سابقاً، بل تدفع كل موسم بسلسلة جديدة من الروايات والدراسات والترجمات التي تعكس أسئلة المجتمع وتحولاته

خلال السنتين الأخيرتين، واصل المفكر والروائي المغربي حسن أوريد حضوره القوي بكتاب «أفول الغرب» الصادر عن المركز الثقافي العربي، حيث يقرأ تحوّلات النظام العالمي من زاوية التوتر بين المركز والهامش، وبكتاب آخر حول «إغراء الشعبوية في العالم العربي»، يربط فيه بين أزمات الديمقراطية وصعود الخطابات الانفعالية في المنطقة. وفي السياق نفسه، تواصل منشورات المتوسط – رغم تمركزها في ميلانو – الرهان على الأصوات المغربية، كما في رواية يوسف فاضل «ريفوبليكا: ثلاثية الريف»، التي تعيد كتابة ذاكرة الهامش الريفي بلغةٍ روائيةٍ تنفتح على التاريخ والسياسة والخيال في آن واحد.

هذا الحراك الإبداعي يتقاطع مع ملاحظة نقدية تداولتها الصحافة العربية مؤخراً: عودة عدد من الروائيين المغاربة إلى جنس القصة القصيرة، في مجاميع جديدة لكتاب بارزين مثل أحمد المديني ومحمد برادة، صدرت عن دور مغربية كـ المركز الثقافي للكتاب ودار الفنك، في تزامن لافت مع دورات معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب.وهكذا لا يظهر المغرب فقط بوصفه سوقاً للكتاب، بل ورشة مفتوحة للأسئلة النقدية حول علاقة القارئ بالنص، وهجرة بعض الكتّاب إلى دور نشر عربية خارج البلد بحثاً عن توزيع أوسع أو شروط تعاقد أفضل.

«ضفّة ثالثة»: منصة رقمية ترسم خريطة الإصدارات

منصّة «ضفّة ثالثة» التابعة لـ«العربي الجديد» تحوّلت خلال الأعوام الأخيرة إلى ما يشبه “بوصلَة” للمتابع العربي، خصوصاً عبر باب «صدر حديثاً» الذي يرصد باستمرار روايات ودراسات جديدة من دور نشر متعدّدة، من تركيا وفرنسا إلى بيروت والقاهرة

في هذا الباب نقرأ، مثلاً، عن رواية «أبناء التيه» للكاتب حسن الخطيب، الصادرة عن دار ميسلون للثقافة والترجمة والنشر بين تركيا وفرنسا، حيث يكتب صاحبها عن الكتابة بوصفها “داء مزمناً” ومساحةً شخصيةً للنجاة من فوضى العالم. كما نتعرّف إلى رواية «عرش على الماء» للمصري محمد بركة، الصادرة عن دار «أقلام عربية» في القاهرة، ضمن سلسلة من الأعمال التي اشتغل فيها الكاتب على اليوميّ المصري، والهجرة، وتحولات الطبقة الوسطى.

هذه النصوص المتناثرة على خريطة واسعة من الدور والبلدان، يجمعها في «ضفّة ثالثة» خيط نقدي واحد: مقالات قرائية تشتبك مع البعد الفني، من دون أن تنسى أسئلة المجتمع والسياسة والهوية. بذلك تصبح المنصّة، من حيث لا تعلن، «ناشراً ثانياً» يدعم حضور هذه الكتب ويمنحها حياة إضافية في الفضاء الرقمي، بعد عبورها الأولى من المطابع إلى رفوف المكتبات.

«القدس العربي»: من تتبّع الإصدارات إلى تشريح أزمة النشر

في الطرف الآخر من الخريطة، يواصل ملحق «ثقافة» في صحيفة القدس العربي لعب دورٍ مركزي في تتبّع الإصدارات الجديدة، ومناقشة أوضاع النشر في أكثر من بلد. فقد نشر الملحق تقارير عن وضعية النشر والكتاب في المغرب، أوضحت هيمنة الكتاب العربي على حساب اللغات الأخرى، وتساءلت عن ضعف حضور بعض الأسماء في معارض الكتاب رغم غنى تجاربهم.

وفي مقالات أخرى، تناولت الصحيفة إصدارات مؤسساتية جديدة مثل السلاسل الصادرة عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة في القاهرة، التي تطلق تباعاً دراسات وكتباً أدبية وشعرية في محاولة لربط الثقافة بالفضاء العمومي خارج العاصمة. كما نجد في صفحاتها مراجعات لروايات عربية جديدة، كتلك التي ناقشت رواية «ورثة الصمت»، أو المقالات التي تستعيد تجربة كتّاب كبار مثل إلياس خوري لتذكير القارئ بأن الرواية العربية لا تزال قادرة على مساءلة الجرح الفلسطيني والعربي بلغة فنية 

في موازاة ذلك، تذهب تحقيقات صحافية نشرتها منابر عربية أخرى إلى تشريح أزمات صناعة النشر: ارتفاع تكاليف الطباعة، تواضع أرقام المبيعات، إغلاق مكتبات عربية في أوروبا، وتوغّل شركات دولية في سوق الكتاب العربي. هذه التقارير، التي ينقل بعضها شهادات لرؤساء اتحادات الناشرين العرب، تحذّر من أن كثيراً من الدور باتت في موقع “الدفاع عن البقاء”، أكثر من التفكير في مغامرات النشر الرقمي أو التوسع في الترجمة.

دار الساقي: بين الرواية والفكر والترجمة

من بيروت، تواصل دار الساقي رسم ملامح “بيتٍ” عربي مفتوح على العالم. فكاتالوغ خريف 2024 مثلاً يضمّ روايات عربية ومترجمة، وكتباً في الفلسفة والسياسة والاقتصاد وعلم النفس وتطوير الذات، إلى جانب إصدارات موجّهة للطفل واليافعين. وقد سبقت هذه الدفعة إصدارات صيف 2024 التي قُدِّمت بوصفها “روائع جديدة” تعكس رهان الدار على المزج بين الأسماء الراسخة والأصوات الصاعدة.

في ميدان كتب الأطفال والناشئة، قدّمت الساقي حزمة عناوين لشتاء 2024، تراهن على لغة بسيطة وصور جذابة، لكنها لا تغفل الأسئلة الحساسة حول الهوية والتنوع والعدالة. وفي قسم الفكر والترجمة، تستمر الدار – ومعها دور عربية أخرى – في تقديم نصوص مفصلية من الفكر العالمي إلى القارئ العربي، سواء عبر الأعمال الكلاسيكية أو الكتب التي تواكب النقاشات الراهنة حول الديمقراطية، الشعبوية، وأزمات الحداثة.

دار الآداب: ذاكرة بيروت وروح التجريب

إلى جوار الساقي، تحافظ دار الآداب على صورتها كواحدة من أعرق دور النشر في بيروت والعالم العربي منذ تأسيسها عام 1956، وقدّمت عبر عقود روايات وشعراً ونصوصاً مسرحية وسيراً ذاتية صارت جزءاً من ذاكرة القارئ العربي. اليوم، تواصل الدار تحديث كاتالوغها عبر عناوين جديدة تظهر تباعاً على موقعها الرسمي ومنصّاتها الرقمية، مثل «غزة أناجية الوحيدة»، «ذاكرة النقصان»، «إضراب فيزيولوجي»، «ترف الانكفاء»، إضافة إلى روايات أخرى من بينها «كل العشاق في الليل» و*«دمشق الجديدة»* و*«غَيبة مي»* وغيرها.

هذه العناوين، على تباعد موضوعاتها، يجمعها خيط واضح: انشغال بالذات العربية الممزّقة بين عنف الواقع وإغواء الانسحاب إلى الداخل. فكتب تتناول غزة بوصفها جرحاً مفتوحاً، إلى جانب نصوص تستقصي هشاشة الجسد وحدود الذاكرة، تعيد تأكيد قدرة الأدب على أن يكون توثيقاً للكارثة وفي الوقت نفسه تمريناً على تخيّل عالمٍ أقل قسوة. وفي خلفية كل هذا، تظهر دار الآداب كدار توازن بين الوفاء لكتّابها الكلاسيكيين والرهان على أصوات جديدة تُنشر أعمالها الأولى أو الثانية على صفحاتها.

من الدار البيضاء إلى ميلانو وإسطنبول: جغرافيا جديدة لدور النشر

ما يُلفت في خريطة الإصدارات العربية الحديثة أنّ جغرافيا النشر لم تعد محصورة في العواصم «التقليدية» فقط. فإلى جانب بيروت والقاهرة والرباط، نجد دوراً عربية تتحرّك من إسطنبول، الدوحة، ميلانو، وحتى من عواصم أوروبية أخرى. منشورات المتوسط، مثلاً، تُدير من ميلانو مشروعاً طموحاً يزاوج بين الرواية العربية المشرقية والمغاربية، والترجمة من اللغات الأوروبية، وتشارك بانتظام في معارض دولية مثل معرض عمّان ومعرض العراق للكتاب، حيث تقدّم كل عام دفعاتٍ جديدة من الروايات والدراسات.

في الوقت نفسه، تظهر دور جزائرية ومشرقية جديدة في تقارير صحف مثل القدس العربي، خصوصاً في مواسم المعارض، حيث تتنافس على تقديم أصوات محلية وأخرى عربية، رغم الضغوط الاقتصادية التي تدفع بعضها إلى تقليص المجازفة في طباعة الأعمال الأولى للكتّاب الشبان.

بين أزمة القراءة و«ضفّة» الأمل

لا يمكن الحديث عن جديد الإصدارات ودور النشر العربية من دون الاعتراف بوجود أزمة قراءة حقيقية في أكثر من بلد، من المغرب إلى المشرق؛ أرقام مبيعات متواضعة، إغلاق مكتبات عريقة، وهجرة كتّاب إلى النشر الرقمي أو إلى دور أجنبية بحثاً عن قارئ آخر ومع ذلك، فإن كثافة الإصدارات الجديدة، وتنوّع الجهات الناشرة، واستمرار منصّات ثقافية مثل «ضفّة ثالثة» و*«القدس العربي»* ووسائط أخرى في مواكبة هذا الحراك، كلّها مؤشّرات على أنّ الكتاب العربي ما يزال يمتلك قدرةً غريبة على البقاء.

اللافت أن هذه «الضفّة الثالثة» للكتاب لم تعد ورقية خالصة ولا رقمية خالصة؛ إنّها مساحة هجينة، يُطبع فيها الكتاب في بيروت أو الدار البيضاء، ويُقرأ في نسخة إلكترونية على شاشة صغيرة في مدينة أوروبية بعيدة، ثم يُناقَش في مقال نقدي على موقع ثقافي عربي، قبل أن يتسرّب مقتطف منه إلى منصّات التواصل الاجتماعي. في هذا المسار الطويل، تصبح دور النشر العربية – في المغرب والعالم العربي – جزءاً من شبكةٍ واسعة، لا تبيع الكتب فحسب، بل تعيد رسم صورة القارئ العربي نفسه: قلقاً، ناقداً، يطارد كتاباً جديداً، في عالم يحاول أن يقنعه كل يوم بأن لا وقت لديه للقراءة.

بهذا المعنى، فإنّ خريطة الإصدارات الجديدة اليوم ليست مجرّد قائمة عناوين، بل هي أيضاً خريطة مقاومة هادئة؛ مقاومة تنسجها دور النشر على مهل، وتلتقط ملامحها منصّات مثل «ضفّة ثالثة» و*«القدس العربي»، وتمنحها دور من قبيل دار الساقي ودار الآداب* و"الدور المغربية" جسداً من ورق وحبراً ورائحةٍ لا تزال، رغم كل شيء، تغري القارئ بأن يعبر نحو ضفّته الثالثة الخاصة

0 التعليقات: