في السنوات الأخيرة، صار ملف الهجرة يتحرك فوق صفيح ساخن، تتداخل فيه السياسات والمصالح والأزمات الإنسانية، ليتحول المهاجر العربي إلى مرآة تعكس ارتباك العالم المعاصر بين رغبة في الإغلاق وحاجة قاهرة للانفتاح. هكذا تبدو الصورة اليوم عبر دول تمتد من أمريكا الشمالية إلى أوروبا وروسيا والبرازيل، حيث تتباين القوانين لكن الهمّ الإنساني واحد، والآمال التي يحملها المهاجر على كتفه تسير في الاتجاه ذاته: البحث عن كرامة مستحقة.
في الولايات المتحدة الأمريكية، يتواصل شدّ الخناق على مسارات الهجرة، إذ تتجه الإدارة نحو تقليص التأشيرات وتوسيع إجراءات الترحيل، بل والدخول في ترتيبات مع دول إفريقية لاستقبال المطرودين. ورغم هذا، لا تزال سوق العمل الأمريكية تبحث بإلحاح عن مهارات عربية في تكنولوجيا المعلومات والطب والهندسة، فتبدو البلاد وكأنها تجمع بين سياسة طاردة وواقع اقتصادي جاذب.
أما المملكة المتحدة، التي لم تخرج بعد من هواجس “البريكست”، فتختبر مسارات غير مألوفة في التعامل مع الهجرة، من بينها نقاشات حول إنشاء مراكز خارج حدودها لاستقبال المرحّلين. ويتعامل المهاجرون العرب هناك مع تقلبات سياسية تجعل الاستقرار هدفًا مؤجلاً، بينما يظل سوق العمل بحاجة لهم في قطاعي النقل والرعاية الصحية.
وتقف ألمانيا في المنتصف بين هذين النموذجين؛ فهي تعلن حاجتها إلى اليد العاملة، لكنها في الوقت نفسه تخوض سجالات سياسية واسعة حول تشديد القوانين. ويعيش المهاجر العربي بين خطابين: خطاب ترحيب اقتصادي وخطاب تحفظ أمني يعيد طرح السؤال حول مستقبل الاندماج في البلاد.
وفي الضفة الإيبيرية، تواجه إسبانيا موجة تشريعات أوروبية جديدة قد تُسرّع عمليات إعادة الذين رُفضت طلباتهم، مع إمكانية توجيه بعضهم إلى مراكز خارج الاتحاد. لكنه، وعلى الرغم من هذه التحولات، ما يزال المهاجر العربي يحصل على فرص واقعية للجنسية والإقامة الدائمة، خصوصًا في الأقاليم التي تعاني نقصًا ديمغرافيًا.
أما إيطاليا، البوابة الجنوبية لأوروبا، فتجد نفسها في قلب الصراع الجيوسياسي للمتوسط، منشغلة بتدبير موجات الهجرة غير النظامية القادمة عبر البحر، بينما تحاول روما في الوقت نفسه إقناع بروكسيل بتقاسم العبء. ويتذوق المهاجر العربي مرارة البحر ومشقة البيروقراطية، لكن روح البحث عن حياة جديدة لا تنطفئ.
وعلى الجانب الأوراسي، يشهد ملف الهجرة في روسيا ظلالًا سياسية أكثر منه اجتماعية، إذ تُتهم موسكو في بعض السجالات الأوروبية باستخدام “الهجرة كسلاح” على الحدود، لكن داخل روسيا نفسها يظل حضور الجاليات العربية محدودًا، ويتفاوت بين الطلاب والعمال الموسميين.
وفي فرنسا، البلد الذي يختلط فيه التاريخ بالهوية، تشهد الساحة السياسية صعودًا لخطاب انتخابي يعد بتقليص الهجرة وتشديد قوانين اللجوء. ويصبح المهاجر العربي هناك جزءًا من جدل وطني واسع، لا يتوقف عن وضع الهجرة في قلب كل نقاش سياسي. ومع ذلك، يبقى الفرنسيون بحاجة إلى كفاءات أجنبية في قطاعات الاقتصاد الرقمي والصحة والخدمات.
أما البرازيل، بعيدا عن صخب أوروبا، فهي تستقبل المهاجرين العرب في فضاء اجتماعي منفتح لكنه اقتصاديًا متعثر، ما يجعلهم يعيشون تحديات خاصة في سوق العمل، خصوصًا في ظل بطء الإجراءات الرسمية وصعوبة الحصول على الاعتراف بالشهادات.
وأخيرًا، تبقى كندا الاستثناء الأكثر وضوحًا؛ فهي من الدول القليلة التي تستمر في فتح الأبواب أمام المهاجرين المهاريين، وتعتبرهم جزءًا من استراتيجيتها الديمغرافية والاقتصادية. لكن رغم هذا الانفتاح، ما تزال مسارات اللجوء بطيئة ومعقدة، ما يدفع المهاجر العربي إلى التنقل بين الأمل والصبر الطويل.
تجمع هذه الدول كلها، على اختلاف سياساتها وطبائعها، قاسمًا مشتركًا واحدًا: المهاجر العربي الذي يواصل رسم خريطة وجوده الجديدة في عالم مضطرب، عالم تتصارع فيه الحاجة الاقتصادية مع الهواجس الأمنية، وتبحث فيه الدول عن موازنة بين فتح الأبواب وحماية الحدود. وبين هذا وذاك، يظل صوت المهاجر—صوت الحلم—أعلى من كل الضجيج.
— عبده حقي







0 التعليقات:
إرسال تعليق