الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، ديسمبر 11، 2025

«المغرب بين التحوّل والإنجاز: قراءة في سياسة الحكومة وتحديات المرحلة» بقلم: عبده حقي


في ظل زخم التحولات الإقليمية والدولية، يواصل المغرب رسم ملامح مرحلة جديدة من الإصلاحات الجوهرية التي تقودها الحكومة الحالية، في إطار ما بات يُشار إليه بـ«مغرب الكرامة والفرص». غير أن قراءة هذا المسار لا تكتمل إلا بإدراك حجم ما تحقق على الأرض، وما ينتظر البلاد من رهانات مستقبلية، داخل سياق يفرض على الدولة، أكثر من أي وقت مضى، أن تجمع بين الحكامة الرشيدة والتنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية.

على المستوى الاقتصادي، قدّمت الحكومة مؤشرات لافتة خلال السنوات الأربع الأخيرة، تمثّلت في ارتفاع الموارد المالية العامة بشكل غير مسبوق، وانتعاش قبض المداخيل الضريبية، وتقليص عجز الميزانية إلى مستويات مطمئنة. هذه الأرقام لا تعكس فقط حُسن إدارة مالية الدولة، بل تكشف أيضاً عن تحوّل في الفلسفة الاقتصادية الرسمية، القاضية ببناء اقتصاد مرن قادر على امتصاص الصدمات الخارجية، من التضخم العالمي إلى توترات الطاقة والغذاء. كما أن الحفاظ على نسبة نمو إيجابية في ظروف دولية مضطربة يعدّ إشارة دالة على قوة البنية الاقتصادية الوطنية، رغم ما يزال يتطلّبه سوق الشغل من مجهود إضافي.

أما في الجانب الاجتماعي، فقد دخل المغرب مرحلة متقدمة من تعميم الحماية الاجتماعية، وهي خطوة اعتبرتها الحكومة «مشروعاً وطنياً مؤسِّساً» لإعادة رسم علاقة الدولة بالمواطن. ملايين المغاربة باتوا اليوم داخل منظومة أكثر صلابة من الدعم الاجتماعي، بفضل السجل الاجتماعي الموحد، وبرامج المساعدة المباشرة، وإعادة هيكلة الدعم التقليدي نحو دعم موجّه يستهدف الأسر الأكثر هشاشة. وفي موازاة ذلك، شهد قطاع التعليم تسارعاً ملحوظاً في توسيع «مدارس الريادة» وإطلاق إصلاحات تربوية بنَفَس جديد، بينما عرف القطاع الصحي إعادة تأهيل واسعة لمراكز القرب، وتوسيعاً لقدرات الاستقبال في البنيات الاستشفائية القائمة، في انتظار إتمام مشاريع ضخمة خلال السنوات القادمة.

في الفلاحة والبنيات التحتية، بدا أن الحكومة عازمة على تجاوز مقاربة التدبير الظرفي نحو رؤية استراتيجية تُعيد الاعتبار للجهات، وخصوصاً المناطق القروية والجبلية. آلاف الكيلومترات من الطرق الجديدة ربطت القرى بالمراكز الحضرية، بينما يجري تحديث شامل للإطار القانوني للاستثمار الفلاحي لأول مرة منذ 1969، بما ينسجم مع تحديات التغير المناخي، وتحوّل سلاسل الإنتاج، وحاجيات الأمن الغذائي الوطني. وفي السياحة، استعاد المغرب مكانته الإقليمية بقوة، بعدما تجاوز عدد الوافدين حاجز 17 مليون سائح، في مؤشر واضح على ثقة الأسواق الدولية وفعالية جهود الترويج وتحسين الخدمات.

ولا يمكن إغفال الطفرة الرقمية التي تشهدها مؤسسات الدولة، ضمن مشروع التحول الرقمي الذي يسعى إلى تبسيط المساطر الإدارية، وتعزيز الشفافية، وربط المواطن مباشرة بالخدمات العمومية دون حواجز بيروقراطية. هذه الدينامية، المدعومة بسياسات موجهة نحو الاقتصاد الأخضر والابتكار التكنولوجي، تؤسس لجيل جديد من القطاعات الاقتصادية القادرة على خلق فرص للشباب، ودمج المغرب في الاقتصاد العالمي الجديد.

غير أن قراءة منصفة لهذه الإنجازات لا تعني إغفال ما يواجه البلاد من تحديات بنيوية. فالمواطن، في نهاية المطاف، يقيس نجاح السياسات العامة بمدى انعكاسها على حياته اليومية: القدرة الشرائية، جودة النقل، فرص العمل، ومحاربة الفوارق بين الجهات. ورغم التقدم المسجّل، تبقى الحاجة ملحّة إلى تسريع الإصلاحات الهيكلية المتعلقة بالتشغيل، وتوزيع الثروة، وضمان العدالة المجالية. هذه التحديات ليست ثانوية، بل تشكّل جوهر المشروع التنموي الذي دعا إليه جلالة الملك، باعتبار التنمية ليست غاية تقنية بقدر ما هي بناءٌ لعقد اجتماعي جديد.

ومع اقتراب نهاية الولاية الحكومية، يبدو المغرب اليوم واقفاً أمام مفترق طرق: من جهة، نتائج إيجابية تشير إلى مسار إصلاح بدأ يؤتي ثماره؛ ومن جهة أخرى، انتظارات اجتماعية متزايدة تتطلب عملاً أكثر عمقاً وجرأة في الملفات الكبرى. ما يميز المرحلة هو إدراك الجميع — حكومة ومواطنين — أن مستقبل المغرب لن يُصنع بوثيرة عادية، بل بثقة متبادلة، وبحوار وطني واسع يضمن مشاركة الجميع في صناعة القرار ورسم ملامح الدولة الاجتماعية الحديثة.

هكذا، يبدو المشهد السياسي في المغرب اليوم أكثر وضوحاً: بلد يتحرك، يتغير، ويتقدم، وسط عالم يزداد تعقيداً. لكن المُهمّ، قبل كل شيء، أن يظل هذا التقدّم محسوساً في حياة الناس، وأن يبقى المشروع التنموي موجهاً نحو الإنسان أولاً وأخيراً.

— عبده حقي

0 التعليقات: