لا أعرف لماذا ينتابني في السنوات الأخيرة شعورٌ بأن العلم، بكل قوته وصلابته التجريبية، بدأ يفقد شيئًا من ملامحه القديمة. لم يعد ذلك الكيان الصلب الذي ظلّ يمدّ البشرية باليقينيات، بل صار أشبه بكائن رقمي يضع قدميه في أرض مختبرية، بينما يمدّ رأسه في فضاءات افتراضية تنسجها الخوارزميات. كأن العلم—الذي نشأ يومًا من رحم التجربة اليدوية—وجد نفسه فجأةً يعيش في طقس معرفي لا يشبهه، لكنه يُجبره على إعادة النظر في قواعده.
هنا بالتحديد، تبدأ فلسفة العلم في استعادة دورها، لا باعتبارها حارسةً على بوابة الحقيقة، بل كصوتٍ قديم يخرج من داخل ضجيج رقمي جديد، ليقول للعالم: «تريّث قليلًا… هل هذا الذي تراه أمامك حقًا علم؟ أم انعكاس لصورة علم تُعيد الخوارزميات تشكيلها كل ثانية؟».
لقد دخلنا مرحلة لا يعود فيها السؤال العلمي ملكًا للمختبر، ولا يعود فيها الحكم الفلسفي محصورًا في التأمل. نحن أمام عالم تتجاذبه قوتان:
قوة العلم التقليدي التي لا تزال تحفظ للمعرفة هيبتها،
وقوة الذكاء الاصطناعي الذي يقتحم كل شيء دون أن ينتظر إذنًا من أحد.
العلم بين مختبر الزجاج ومختبر السيلكون
عندما أتأمل مسار العلم في تاريخه الطويل، أرى أن هذا المسار كان دائمًا محروسًا بفلسفة تُعيد ترتيب أشيائه. كل نظرية كانت تقف على عتبة سؤالٍ فلسفي، وكل اكتشاف كان يفتح بابًا لإعادة النظر في ما حسبناه ثابتًا. لكن هذا الإيقاع تغيّر. فالعلم لم يعد وحده من يدخل إلى مختبراته. هناك الآن شريك جديد: الذكاء الاصطناعي.
ولعل ما يربكني حقًا هو أن هذا «الشريك» لا يدخله من الباب، بل من خلال ملايين المسارات التي تتسرب عبرها البيانات. لم يعد
بالإمكان الحديث عن تجربة علمية بالمعنى التقليدي، لأن الخوارزمية نفسها صارت جزءًا من التجربة. والذي نراه اليوم هو انتقال العلم من الزمن البطئ إلى الزمن الخفيف؛ من أنابيب الاختبار إلى الواجهات الرقمية؛ من الملاحظة الصامتة إلى المعالجة الفورية.
ومع هذا كله، يظل السؤال الفلسفي مُعلّقًا:
هل ما ينتجه الذكاء الاصطناعي هو معرفة؟ أم مجرد محاكاة المعرفة؟
قد تبدو الإجابة سهلة لأول وهلة، لكنها ليست كذلك. لأن المحاكاة حين تتقن دورها، تصبح هي نفسها مصدرًا للحقيقة. وما نعيشه اليوم هو هذا الخلط بين الحقيقة الرقمية والحقيقة العلمية؛ خلط يجعل الفلسفة تعود إلى المشهد من جديد لتعيد ترتيب الحدود.
هل ما زلنا نملك تعريفًا واضحًا للعلم؟
قد يبدو السؤال بسيطًا، لكنه في الحقيقة من أكثر الأسئلة إرباكًا. ففي الماضي، كان بإمكاننا أن نقول إن العلم هو ما يُبنى على التجربة والبرهان القابل للاختبار. لكن ما الذي يحدث عندما تصبح التجربة نفسها رقمية؟
حين تُنشئ الخوارزمية نموذجًا احتماليًا يتنبّأ بالنتيجة قبل حدوثها؟
حين يسبق النموذج التجريبي الواقع نفسه؟
حين يصبح المختبر الحقيقي ليس فيزيائيًا، بل محاكاة عالية الدقة؟
ما الذي بقي من العلم إذن؟
وأي دور تبقى للفلسفة في كل هذا؟
شخصيًا، أشعر أن الفلسفة لم تعد تراقب العلم من بعيد كما كانت تفعل سابقًا. لقد اقتربت منه، ودخلت معه في لعبة معقدة. لم تعد فقط تسأل «كيف نعرف؟» بل صارت تسأل «من الذي يعرف؟» و«بأي أداة؟» و«لصالح من تُنتج هذه المعرفة؟».
وهذه الأسئلة ليست تجميلية. إنها أسئلة سياسية، معرفية، أخلاقية، وهي الأسئلة التي تُصرّ فلسفة العلم على طرحها في ظل هذا الانفجار الرقمي.
بين بوبر والخوارزمية… المسافة التي لم ننتبه إليها
لا نحتاج العودة بعيدًا في الزمن. يكفي أن نستعيد تلك اللحظة التي وضع فيها كارل بوبر معيار «قابلية التفنيد» كشرط لأي نظرية علمية. كان بوبر يعتقد، بذكاء نقدي واضح، أن العلم لا يتقدم إلا حين يسمح لنفسه بأن يُكذَّب. لكن ماذا يحدث إذا كانت الخوارزمية لا تقبل التفنيد أصلًا؟
ماذا لو كانت نتائجها تُبنى على ملايين الأسطر البرمجية التي لا نرى منها شيئًا؟
كيف يمكن تفنيد شيء لا نعرف كيف يعمل؟
لقد كان بوبر يتعامل مع العلم بوصفه بناءً عقلانيًا يقدّم نفسه للنقد. لكن الذكاء الاصطناعي لا يقدم نفسه للنقد، بل يقدم نتائجه فقط. يقدم «الحقيقة» ولا يكشف عملية إنتاجها. وهنا تكمن الأزمة الجديدة.
من هنا، يصبح دور الفلسفة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. لم تعد الفلسفة مجرد تأمل، بل صارت تفكيكًا للخوارزميات، نقدًا لشفافيتها، مساءلةً لحدودها، ومحاولة لفهم ما إذا كانت هذه «الآلة» تنتج معرفة أم تستعيدها من مكان آخر.
سلطة البيانات: حين يتحول العلم إلى أرشيف ضخم يراقب العالم
ما يخيفني شخصيًا ليس تقدم الذكاء الاصطناعي بقدر ما يخيفني هذا التحول العميق في بنية المعرفة. فنحن ننتقل من عصر كان العلم فيه مرتبطًا بالتجربة والحدس البشري، إلى عصر تصبح فيه البيانات هي الحاكم. البيانات تُنتج النظريات، وتُشير إلى العلاقات، وتفتح مجالات جديدة. لكنها تفعل ذلك بطريقة تختلف جوهريًا عن الطريقة الإنسانية.
العقل البشري يبحث عن معنى.
الخوارزمية تبحث عن نمط.
وهذا الفارق—الذي قد يبدو بسيطًا—هو أصل الثورة المعرفية التي نعيشها اليوم.
إن الخوف الحقيقي يكمن في أن العلم، حين يتخلى عن المعنى، يصبح مجرد سلسلة من العلاقات الرقمية التي لا يدركها أحد إلا الآلة التي خلقتها. وهنا، يصبح الإنسان مجرد مستهلك للنتائج، لا مشاركًا في إنتاجها.
العالم لم يعد كما كان… والفلسفة لا تستطيع أن تبقى كما كانت
أذكر أنني كتبتُ قبل سنوات عن أن الفلسفة تشبه يدًا خفية تعيد ترتيب الأسئلة كلما ضاعت بوصلتها. واليوم أكتشف أن هذه اليد أصبحت أكثر ضرورة. لأن المعرفة الرقمية تُغري بالسرعة، وتُغري بالوضوح، وتدفعك للاعتقاد بأن الحقيقة يمكن أن تُختزل في سطر واحد أو رسم بياني واحد.
لكن الحقيقة ليست هكذا.
الحقيقة تحتاج إلى سياق، إلى خوف بشري، إلى ارتباك، إلى تلك اللحظة التي يشك فيها الباحث في نفسه قبل أن يشك في تجربته.
فلسفة العلم، في العصر الرقمي، ليست ترفًا فكريًا. إنها محاولة لاستعادة هذا الارتباك الجميل الذي يذكّر الإنسان بأنه ليس آلة، وأن المعرفة ليست نتيجة فقط، بل رحلة طويلة مليئة بالشكوك.
أين يقف الإنسان داخل كل هذا؟
سؤال يبدو بسيطًا لكنه ليس كذلك:
أين يقف الإنسان في عصر تصبح فيه الخوارزميات أسرع منه، أدقّ منه، وأكثر صبرًا منه؟
هل يظل الإنسان هو «العالِم»؟
أم يصبح مجرد «مراقب» لما يصنعه الذكاء الاصطناعي؟
وهل يمكن أن نحتفظ بتعريف العلم كما ورثناه؟ أم ينبغي إعادة صوغه بالكامل ليشمل هذا الكائن الجديد الذي لا ينام ولا ينسى؟
أظن أن فلسفة العلم، في السنوات القادمة، ستتجه إلى إعادة صياغة مفاهيم أساسية:
ماهيّة الحقيقة
حدود المعرفة
التمايز بين المعنى والنمط
العقل الإنساني مقابل العقل الاصطناعي
والمسافة بين التجربة والمحاكاة
وهذه ليست مجرد مفاهيم. إنها خرائط معرفية جديدة تحدد مصير الإنسان نفسه.
الذكاء الاصطناعي… سؤال فلسفي قبل أن يكون تقنيًا
ما يجعل الذكاء الاصطناعي موضوعًا فلسفيًا هو أنه يهدد التوازن الذي عاش عليه العلم طوال قرون. لقد كان العلم دائمًا يمشي على عكازين: التجربة والعقل. لكن الذكاء الاصطناعي يقدّم عكازًا ثالثًا، ولكنه عكاز يجرّ الاثنين الآخرين خلفه.
والسؤال الذي يقلقني دائمًا هو:
هل سيتراجع العقل البشري خطوة؟
وهل ستتغير التجربة العلمية نفسها حين تُنتجها نماذج رياضية لا نعرف كيف تفكر؟
الفلسفة، هنا، ليست رفاهية. إنها ضرورة. لأن أي علم ينفصل عن جذوره الفلسفية يتحول إلى أداة بلا بوصلة.
خاتمة: المعرفة ليست ما نعرفه… بل كيف نعرفه
في النهاية، وبعد كل هذه المتاهات الفكرية، أعود إلى سؤال واحد ظلّ يحرسني منذ بداية هذا النص:
ما الذي يجعل المعرفة معرفة؟
هل هي النتيجة؟
أم المنهج؟
أم ذلك القلق الداخلي الذي يدفعنا إلى البحث؟
أعتقد، من تجربتي، أن المعرفة ليست نتيجة، وليست مجرد تراكم للدقة، بل هي علاقة مع العالم. علاقة تمنح الإنسان القدرة على أن يشكّ، على أن يُخطئ، على أن يرى ما تراه الماكينة، ولكنه يضيف إليه شيئًا واحدًا لا تستطيع أي خوارزمية أن تنتجه: المعنى.
ولهذا أقول بثقة:
إذا كان العلم هو الجسد، فإن الفلسفة هي الروح.
وإذا كانت الخوارزمية هي السرعة، فإن العقل البشري هو الطريق.
وإذا كان الذكاء الاصطناعي يقدّم لنا الإجابات، فإن الفلسفة تُذكّرنا بأن نسأل السؤال الذي يغيّر كل شيء.








0 التعليقات:
إرسال تعليق