الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، ديسمبر 08، 2025

قراءة نقدية في كتاب، "النظريّة النقديّة المعاصرة والتكنولوجيا" عبده حقي


 لستُ أدري وأنا أفتح هذا الكتاب، "النظريّة النقديّة المعاصرة والتكنولوجيا"، لماذا خُيّل إليّ أني أسمع خشخشةً قديمةً لأوراق لم تُقلب بعد… كأن الكتاب نفسه كان ينتظر قارئًا يأتيه من زمنٍ لم نعد ننتمي إليه. وربما لهذا السبب شدّني إليه ذلك الخليط الغريب بين صرامة الفلسفة وارتباك الإنسان المعاصر وهو يحدق في شاشته المتوهّجة.

أقولها كما يشعر بها قلبي لا كما تقتضي قواعد النقد الأكاديمية: هذا كتابٌ لا يُقرأ دفعةً واحدة، ولا يصلح أن يُختصر في جملةٍ أو جملتين. هو كتابٌ يتلعثم أحيانًا، ويتمهّل أحيانًا أخرى، ثم ينقضّ فجأةً على سؤالٍ فلسفي يليق بعصرٍ يركض أسرع ممّا نفهمه. في كل فصلٍ تقريبًا، يختبر القارئ علاقةً قلقة بين الإنسان والتكنولوجيا، علاقةٌ يشوبها نوعٌ من الحياء… ونوعٌ آخر من الخوف.

يبدو المؤلّفون هنا — وهم خليط من مفكرين معاصرين يتقاطعون مع مدرسة فرانكفورت الجديدة — وكأنّهم يصوغون مرثيّةً طويلةً للخيارات التي نعتقد أنها حرة بينما هي، في العمق، مشروطةٌ بخوارزميات لا نعرف ملامح وجوهها. كأن التكنولوجيا اليوم صارت نوعاً من “القدر الجديد” الذي نتقبّله ونحن نبتسم، رغم أننا نشعر، في الداخل، أنّ شيئًا لا يطمئن.

لا شيء في هذا الكتاب يقدّم أجوبةً مريحة. بالعكس. كلّما تقدّمتَ في القراءة، شعرت بأن الأسئلة تتكاثر كالكائنات المجهريّة تحت مكبّر… أسئلة حول معنى الحرية، وعمق التواصل الإنساني، وحول تلك "المراقبة الناعمة" التي تمارسها الأجهزة علينا وتتركنا نظن أننا وحدنا من يمسك بالمقود. لكنّ المؤلّفين، رغم سوداويتهم أحيانًا، لا يكتبون بنبرة الواعظ ولا بفم المتشائم النهائي. إنهم فقط يضعون مرآةً أمام عصرٍ يرفض أن يراها.

هناك صفحاتٌ في الكتاب تشعر فيها بأن النقد الفلسفي يشتبك مع علم الاجتماع، وبأن التحليل النفسي يخرج من بابٍ خلفي ليتسلل إلى مناقشة أدوات الذكاء الاصطناعي. شيءٌ يشبه غرفةً مزدحمةً بأصواتٍ كثيرة، لكنّها، مع ذلك، تنجح في أن تقول لك شيئًا واحداً: العالم تغيّر، ونحن لم نلحق به بعد.

لم تعجبني كل فصول الكتاب بالتساوي. بعضها بدا نظريًا أكثر مما يلزم، وبعضه الآخر حاول أن يجرّ التكنولوجيا إلى مساراتٍ أخلاقية صارمة لا تناسب طبيعة الابتكار. ولكن، في النهاية، هذا التضارب نفسه يعطي الكتاب صوته الحقيقي… صوت زمنٍ لم يستقر بعد، وزمنٍ آخر نحاول نحن أن نخلق ملامحه.

ما خرجتُ به من الكتاب ليس خلاصةً فكرية جاهزة، بل إحساسًا… إحساس بأن التكنولوجيا ليست شرًا مطلقًا، ولا خيرًا صافياً، بل هي ببساطةٍ امتدادٌ ليد الإنسان: إذا كانت اليد مرتعشة، جاءت التقنية مرتعشة؛ وإذا كانت اليد حكيمة، انعكس ذلك في كل ما تصنعه.

ولعلّ أجمل ما في الكتاب أنّه يدفع القارئ ليتساءل:
هل نحن نستخدم التكنولوجيا، أم أننا أصبحنا مادتها الخام؟
ولم أجد لهذا السؤال جواباً نهائيًا… ولا أظن الكتاب كان يريد جواباً أصلاً.

0 التعليقات: