في الأيام الأخيرة، تكاثرت العناوين الصادمة القادمة من الجزائر كما لو أنّ البلاد تعيش في شريط واحد طويل لا يعرف هدنة. من تصريح سياسي انفجاري إلى حادث دموي على الطرقات، ومن ملفات تطبيع سرّية تُكشف فجأة إلى صراع مفتوح مع حركة انفصالية صنعتها السياسات الرسمية نفسها، تبدو الخارطة الجزائرية أشبه بمرآة واسعة تعكس كل تناقضات السلطة، وكل ارتباكات اللحظة التي تعيشها المنطقة المغاربية بأكملها.
منذ الرابع عشر من ديسمبر، عاد التاريخ ليكتب اسمه بمداد ثقيل. ذلك اليوم الذي تحوّل إلى رمز لانغلاق السلطة ورفضها التفاهم حين تجاهل الرئيس تبون اليد الممدودة من طرف حركة “الماك”. هذا الرفض لم يكن مجرد قرار سياسي، بل إعلانًا عن ولادة صراع جديد يُخاض بالعناد لا بالحوار، وبالتشنج لا بالحلول الواقعية. ومن المفارقات أن هذا الإغلاق نفسه هو ما غذّى الحركة لاحقًا، ودفعها نحو نفوذ لم تكن لتصل إليه لولا سلسلة “الأخطاء المذهلة” التي ارتكبها النظام في مواجهة ملف الداخل قبل الخارج.
تتواصل الأحداث كأنها حلقات من مسلسل سياسي مكشوف. الحملات التعبوية الأخيرة للجزائريين في فرنسا، والتي أريد لها أن تكون عرض قوة ضد الماك، تحوّلت إلى دليل جديد على سوء تقدير السلطة، إذ بدا المشهد أقرب إلى اعتراف غير مباشر بعمق الأزمة وهشاشة الأدوات التي تعتمدها الدولة لترويض معارضة لم تعد تخشى المنفى ولا الخطاب الرسمي.
وفي خلفية هذا الاضطراب، تبرز أوراق أكثر حساسية. ملف التطبيع السري مع إسرائيل الذي قيل إن إدارة ترامب عرضته على نظام تبون قبل سنوات، يعيد إلى الواجهة سؤال الشرعية والاتساق السياسي. فالنظام الذي بنى خطابًا كاملاً على مهاجمة خصومه بتهمة “التطبيع”، يجد نفسه اليوم أمام وثائق تخرج للعلن وتكشف أنّ اللعبة كانت أوسع وأعقد مما يُقال في البيانات الرسمية. وفي السياسة، ما يخفى يصبح دائمًا أثقل مما يُعلَن.
لكن ما يحدث على الطاولة الدبلوماسية لا ينفصل عمّا يجري في الشارع. فقد شهد الجزائريون قبل يوم واحد فاجعة أخرى: 14 قتيلًا في انقلاب حافلة، حادثة مرّت كأنها حدث عابر، رغم أنها تحمل دلالة عميقة على حجم الفوضى البنيوية التي تضرب شبكات النقل والرقابة والحوكمة. لم يكن الحادث مجرد خبر، بل صورة دامية لبلد يُدار بارتجال مقلق، حيث يظهر الموت في كل مرة ليذكّر بأن الأزمات ليست سياسية فقط، بل هي أيضًا يومية، ملموسة، وتدفع ثمنها أرواح أبرياء لا علاقة لهم بصراعات النخب.
وإذا كان الداخل يضطرب، فإن الملفات الخارجية بدورها تكشف عن هشاشة العلاقات الإقليمية. في خضم توتر دائم مع المغرب، ظهر موضوع الابتزاز الهجري كعنوان جديد يُستخدم في لحظات التصعيد الإعلامي، رغم أنّ المقاربتين المغربية والجزائرية تبدوان مختلفتين في الجوهر. هنا تصبح الهجرة ورقة ضغط، وحكاية لتبادل الاتهامات، بدل أن تُقرأ بوصفها ظاهرة إنسانية تحتاج حلولًا واقعية ومسارات تعاون لا مسارات تخوين.
وبين كل هذه العواصف، تبدو السلطة الجزائرية كمن يركض من ملف إلى آخر بلا خريطة. فها هو النظام يخطط لرحلة رئاسية مرتقبة نحو إسبانيا، “لِتُدفَن هناك أغرب قضية في تاريخ الجزائر”، كما وصفها أحد المحللين. رحلات خارجية متتالية لا تحل أزمة داخلية واحدة، لكنها تمنح السلطة فسحة للهروب من الأسئلة التي لا يمكن تجاهلها إلى الأبد.
غير أنّ أكثر الملفات خطورة يبقى ذاك المتعلق بـ قضية "أمير دي زِد" وما أثير حول مقايضات محتملة بين صحفي فرنسي وسجين جزائري سابق في إطار ما وصف بأنه “ابتزاز دنيء”. هذا النوع من الملفات يمزج السياسة بالأمن، والفضيحة بالدبلوماسية، ويكشف طريقة اشتغال سلطة تُفضّل المقايضة على الشفافية، والصفقات على احترام المؤسسات.
إنّ قراءة هذه الأحداث كوحدة واحدة تُظهر أنّ الجزائر في لحظة مفصلية:
سلطة تتّخذ قراراتها بعقلية الحصار، ومعارضة تكبر بخطاب الرفض، وحوادث يومية تكشف ترهّل البنية العامة، وملفات خارجية تزيد المشهد تعقيدًا. في هذا المزيج، يبدو أنّ النظام يصنع أعداءه بيده، ثم ينهك نفسه في مطاردتهم، بينما تظل الأسئلة الكبرى معلّقة: إلى أين تتجه البلاد؟ ومن يدفع الثمن في النهاية؟
المنطقة المغاربية كلّها تشعر الآن بارتدادات هذا الارتباك. وما يجري في الجزائر لم يعد شأنًا داخليًا بحتًا، بل عامل توتّر مستمرّ في فضاء مترابط سياسيًا وجغرافيًا وأمنيًا. هكذا يصبح خبر انقلاب حافلة، أو كشف صفقة تطبيع، أو إعلان انفصالي، أكثر من مجرد حدث؛ يصبح إشارة على تحوّل عميق لا يزال في بداياته.
في النهاية، يبدو المشهد الجزائري اليوم كما لو أنه غيمة ثقيلة تتحرّك ببطء فوق المغرب العربي، تحمل برقًا سياسيًا وصواعق اجتماعية، ولا أحد يعرف بالضبط متى ستنهمر… ولا على من.








0 التعليقات:
إرسال تعليق