لم تكن عودة المغرب القوية إلى إفريقيا حدثًا عابرًا ولا ردّة فعل ظرفية، بل مسارًا طويلًا وحسابًا إستراتيجيًا اشتغل عليه البلد بصمت لسنوات. واليوم، في ضوء التحولات التي يعرفها القارّة، يظهر أن الرباط بصدد بناء خريطة جديدة لعلاقاتها الإفريقية، خريطة لا تقومعلى الزيارات البروتوكولية ولا على لغة الخطب، بل على حضور فعلي في الأرض: مشاريع، موانئ، تعاون عسكري، نفوذ ديني، ومبادرات اقتصادية تضرب جذورها بعيدًا في العمق الإفريقي.
وعندما ننظر في تفاصيل هذا الحضور، نكتشف أن المغرب لم يكتفِ بترميم علاقاته التقليدية، بل اتجه إلى مناطق كانت خارج دائرة اهتمامه لسنوات، مثل القرن الإفريقي وتنزانيا والكاميرون. هناك، وسط المشهد الإفريقي المتغيّر، بدأ البلد يرسم لنفسه موقعًا جديدًا يصعب تجاوزه، موقعًا يعتمد على مبدأ بسيط: أن يكون المغرب شريكًا موثوقًا يعتمد عليه، بدل أن يبقى مجرّد طرف في صراع النفوذ بين القوى القديمة والجديدة في القارة.
في غرب إفريقيا، حيث تمتد الروابط الروحية والتاريخية، يتقدم المغرب بثقة أكبر. فالسنغال ما تزال حجر الزاوية في هذا الامتداد، ليس فقط بسبب الدعم السياسي الثابت لمغربية الصحراء، بل لأن العلاقة بين البلدين تقوم على ثقة ممتدة لزمن طويل. الأمر نفسه نجده في ساحل العاج، حيث تحولت الشراكة الاقتصادية إلى نموذج يُدرَّس في المنطقة. شركات مغربية، مشاريع لوجستية، تعاون في الأمن والتنمية الاجتماعية… كلّها عناصر تبني حضورًا لا يُختزل في أرقام الصادرات والواردات.
وموريتانيا بدورها دخلت مرحلة جديدة. المعبر البري في “أمجالا”، الذي يُضاف إلى الكركرات، ليس مشروعًا تقنيًا بقدر ما هو إعلان واضح عن رغبة المغرب في تحويل حدوده الجنوبية إلى رافعة اقتصادية تعيد رسم الخريطة التجارية في غرب القارة. ذلك الدفء المتزايد في العلاقة بين الرباط ونواكشوط يكشف عن إدراك مشترك بأن المصالح الحقيقية لا تُبنى على الشعارات بل على الطرق المفتوحة والموانئ الحيوية والحدود الآمنة.
غير بعيد عن هذا المحور، يضع المغرب أقدامه بثبات في إفريقيا الوسطى، سواء في الغابون أو الكاميرون.
الأولى تستقبل الخبرة المغربية في الرقمنة والحكومة الإلكترونية، والثانية تتعامل مع الرباط باعتبارها شريكًا ذا مصداقية في مجالات التكوين العسكري والدعم التقني. في هذه المنطقة التي تشهد تنافسًا بين قوى عديدة، نجح المغرب في تقديم نفسه كبديل هادئ، يقدّم الخبرة دون أن ينتظر مقابلًا سياسيًا مباشرًا.
لكن التحوّل الأبرز ربما يوجد في شرق إفريقيا. إثيوبيا، بثقلها السكاني والسياسي، لم تعد بعيدة عن المسار المغربي. مشروع الأسمدة الضخم الذي تشرف عليه مجموعة OCP ليس مجرد استثمار، بل خطوة إستراتيجية تجعل المغرب جزءًا من الأمن الغذائي للمنطقة. وإلى جانبه يبرز التعاون العسكري والثقافي، ما يؤشر إلى نوع من الشراكة طويلة الأمد تتجاوز العلاقات التجارية.
تنزانيا هي الأخرى مثال على هذا التوجّه الجديد.
ارتفاع المبادلات التجارية، توسّع الشركات المغربية، والانفتاح المتزايد على الطاقة الخضراء، كلها مؤشرات على أن الرباط تفتح لنفسها أبوابًا لم تكن موجودة في الماضي. من يتابع تطور العلاقات بين البلدين، يلمس أن المغرب يتحرك هنا بلغة مستقبلية، لغة تعرف أن شرق إفريقيا سيكون أحد أكبر الفضاءات الاقتصادية في العقد المقبل.
أما في شمال القارة، فالصورة متباينة.
مصر تمثل شريكًا اقتصاديًا مهمًا، خصوصًا في قطاع السيارات والطاقة، حيث يظهر البلدان كأنهما يسيران بخطوات متوازنة نحو تعاون أوسع.
تونس، رغم التوتر الذي طبع العلاقات في السنوات الأخيرة بسبب ملف الصحراء، بدأت تعطي إشارات خفيفة إلى إمكانية تهدئة الوضع، لكن الطريق ما يزال طويلًا أمام إعادة بناء الثقة.
وفي ليبيا، يواصل المغرب أداء دور الوسيط الهادئ، وهو دور أكسبه احترامًا واسعًا لأنه يقوم على قاعدة بسيطة: لا تدخل في الصراع، وامنح الأطراف مكانًا آمنًا للحوار.
وتظل جنوب إفريقيا نقطة حساسة. موقفها التقليدي المؤيد للبوليساريو لم يتغيّر جذريًا، لكن علامات الانقسام داخل المشهد السياسي هناك تُظهر أنّ الصورة لم تعد صلبة كما كانت. أحزاب جديدة بدأت تنفتح على مبادرة الحكم الذاتي المغربية، وهو تحوّل صغير لكنه مهمّ لأنه يُحدث كسرًا في جبهة ظلت لعقود مغلقة بإحكام.
وسط كل هذا الزخم، تبقى الصحراء المغربية هي البوصلة التي تتحرك نحوها كل خيوط السياسة الخارجية للمغرب في إفريقيا.
هذا الملف، الذي كان يُقدَّم لعقود باعتباره مأزقًا دبلوماسيًا، تحوّل في السنوات الأخيرة إلى نقطة قوة.
الاستثمار في البنية التحتية في العيون والداخلة، فتح القنصليات، ربط الطرق والموانئ، إضافة إلى حضور دبلوماسي مكثّف داخل الاتحاد الإفريقي… كلها عوامل جعلت الكثير من الدول الإفريقية تعيد حساباتها، وتقترب تدريجيًا من المقاربة المغربية.
وعندما نجمع هذه الخيوط كلها، يتضح أن المغرب لا يبحث عن مجد سياسي مؤقت، بل عن بناء مكانة طويلة المدى في قارة تتحول يومًا بعد يوم إلى مركز ثقل عالمي جديد.
القوة الحقيقية هنا ليست في الخطابات ولا في الضجيج الإعلامي، بل في المشاريع التي تستمر على الأرض، في الثقة التي تتكون ببطء بين الدول، وفي القدرة على المزج بين الاقتصاد والأمن والثقافة والروحانيات في شبكة واحدة.
إن خريطة علاقات المغرب الإفريقية اليوم ليست مجرد رسم جغرافي، بل هي سردية كاملة تُكتب على مهل، وتحمل ملامح بلد يعرف أنه لا يمكن أن يكون قويًا في شمال القارة، ما لم يكن حاضرًا في جنوبها وشرقها وغربها… وبالمنطق نفسه، يعرف أن بناء النفوذ لا يتم بفرض القوة، بل بفتح الأبواب، ومدّ الجسور، واحترام خصوصيات الشعوب.
هذه الذاتية المغربية الجديدة في إفريقيا تقوم على ثلاث كلمات بسيطة: الشراكة، الثقة، والاستمرارية.
ومن يسعى إلى فهم مستقبل المغرب في القارة، لن يجد أفضل من تتبع هذه الكلمات الثلاث وهي تتحول يومًا بعد يوم إلى واقع ملموس، يُعاد به تشكيل الخريطة الإفريقية على نحو هادئ، لكنه عميق وحاسم.








0 التعليقات:
إرسال تعليق