الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، ديسمبر 01، 2025

المغرب بين واقعية الإنجاز وطموح الإصلاح: عبده حقي


تعيش المملكة المغربية خلال السنوات الأخيرة مرحلة انتقالية دقيقة، تحاول فيها الدولة تحويل خياراتها الكبرى إلى نتائج ملموسة عبر مجموعة من السياسات العمومية التي تتوزع على مجالات الاقتصاد، البنية التحتية، التحول الرقمي، الحماية الاجتماعية، والدبلوماسية. وإذا كانت لغة الأرقام تتيح قراءة مباشرة، فإنّ تحليل هذه السياسات يكشف عن منطق أعمق يُشكّل خلفية التوجه الحكومي الحالي: بناء دولة أكثر قدرة على الصمود، وأكثر جاهزية لولوج اقتصاد المعرفة، وأكثر انسجامًا على المستوى الترابي والاجتماعي.

هذه القراءة لا تقتصر على وصف ما تحقق، بل تتجاوز ذلك إلى تفكيك طريقة اشتغال الحكومة، ورصد التحولات الاستراتيجية التي تسعى إلى ترسيخ نموذج تنموي جديد، يُوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.

اقتصاد يُحاول تجاوز اختناقاته البنيوية

تُعد العودة إلى نسب نمو إيجابية — رغم موجات الجفاف وارتفاع التضخم العالمي — مؤشرًا على أن الاقتصاد المغربي يمتلك قدرة على التعافي، لكن هذا التعافي لا يخفي طابع الهشاشة البنيوية الذي يعاني منه منذ سنوات. فمصادر النمو ما تزال مرتبطة بثلاثة أعمدة رئيسية: الصناعة، السياحة، والخدمات.

التحليل يبيّن أن الحكومة ركّزت خلال السنوات الأخيرة على ثلاثة محاور:

  1. تحسين موارد الدولة عبر ترشيد الإنفاق وتعزيز التحصيل الضريبي، مما أدى إلى تضاعف الإيرادات العادية.

  2. تنويع مصادر الشغل عبر تشجيع قطاعات الصناعات التحويلية والصناعة الخضراء.

  3. التوجه نحو اقتصاد المعرفة الذي بدأ يشق طريقه ببطء لكنه يحمل بوادر تحول بنيوي على المدى المتوسط.

غير أن التحدي الحقيقي لا يكمن في تحقيق النمو، بل في قدرة هذا النمو على خلق فرص عمل ذات جودة، ورفع الدخل الفردي، وتقليص الفوارق بين الطبقات والجهات.

البنية التحتية: قطاع يرسّخ “الدولة الممكنة”

لا يمكن لأي تحليل موضوعي أن يغفل التطور الكبير في البنية التحتية. فالاستثمارات في الطرق السيارة، السكك الحديدية، والموانئ ليست مجرد مشاريع تقنية بل أدوات لبناء اقتصاد تنافسي. ويبدو واضحًا أن الدولة تسعى، عبر هذه المشاريع، إلى تجسيد واحدة من أهم توصيات النموذج التنموي الجديد: تقليص الفوارق الترابية.

من منظور تحليلي، هذا الاستثمار يحمل دلالتين:

  • دلالة اقتصادية: تحسين جاذبية الاستثمار وربط سلاسل الإنتاج بين الجهات.

  • دلالة سياسية-اجتماعية: إعادة توزيع الفرص عبر فتح المجال أمام مناطق كانت تعاني من العزلة التنموية.

هذه الدينامية تجعل البنية التحتية ليست غاية في حد ذاتها، بل آلية لتوسيع قاعدة المستفيدين من النمو.

التحول الرقمي: نحو إدارة تستعيد ثقة المواطن

تبنّت الحكومة استراتيجية رقمية طويلة المدى، تسعى من خلالها إلى رقمنة الخدمات العمومية، وإعادة هيكلة العلاقة بين المواطن والإدارة. التحليل هنا يتجاوز الجانب التقني إلى بُعد أعمق: استعادة الثقة.

فرغم تقدم مشاريع الرقمنة، يكشف تقييم السياسات العمومية أن التحدي الأكبر يتمثل في:

  • ضمان سهولة الولوج إلى الخدمات الرقمية في المناطق القروية؛

  • تطوير قدرات الموظفين؛

  • حماية المعطيات الشخصية؛

  • ودمج الشباب في سوق رقمية تنافسية عالميًا.

التحول الرقمي، بهذا المعنى، ليس مجرد “مشروع دولة”، بل عملية إعادة تشكيل لثقافة إدارية عمرها عقود.

السياسة الاجتماعية: من الدعم التقليدي إلى منطق الاستثمار في الإنسان

يشكل البعد الاجتماعي أحد الأعمدة الأكثر حساسية في العمل الحكومي. فالبرامج الخاصة بالسكن، الحماية الاجتماعية، ودعم الفئات الهشة تمثل تحولا في رؤية الدولة لدورها. وتكشف القراءة التحليلية أن الحكومة تسعى إلى الانتقال من منطق الدعم المناسباتي إلى منطق الاستثمار الاجتماعي المستدام.

بمعنى آخر:
الهدف لم يعد مجرد توزيع المساعدات، بل خلق منظومات اجتماعية طويلة الأمد تُقلّل من هشاشة الأسر وتمنحها القدرة على الاندماج الاقتصادي.

غير أن نجاح هذه البرامج يظل رهينًا بقدرتها على الوصول الفعلي إلى الفئات الأكثر احتياجًا، وبوجود آليات تقييم شفافة تقيس أثرها الحقيقي، لا فقط حجم ميزانياتها.

الدبلوماسية المغربية: استراتيجية تراكم هادئ

على المستوى الخارجي، حافظ المغرب على نهج دبلوماسي يقوم على تراكم الإنجازات، خصوصًا فيما يتعلق بملف الصحراء الذي شهد دعمًا دوليًا متزايدًا. ومن منظور تحليلي، يمكن القول إن السياسة الخارجية المغربية ترتكز على:

  • تنويع الشراكات الدولية بعيدًا عن الاصطفافات التقليدية؛

  • تحويل الجغرافيا السياسية إلى فرصة اقتصادية؛

  • ترسيخ صورة المغرب كفاعل إقليمي مستقر في محيط مضطرب.

هذا النهج يمنح المملكة مساحة مناورة واسعة، ويجعل الدبلوماسية امتدادًا مباشرًا للاستراتيجية الاقتصادية والاستثمارية.

خلاصة تحليلية: بين طموح الدولة وإكراهات الواقع

عند تجميع كل هذه العناصر، يتضح أن الحكومة المغربية تتحرك وفق تصور شامل يهدف إلى:

  • تثبيت أسس اقتصاد مقاوم للصدمات؛

  • بناء بنية تحتية صلبة؛

  • تحديث الإدارة عبر الرقمنة؛

  • توسيع قاعدة الحماية الاجتماعية؛

  • وتثبيت الموقع الإقليمي للمغرب.

لكن التحليل يبرز أيضًا أن النجاح الحقيقي لن يتحدد بالإنجازات التقنية أو الاقتصادية وحدها، بل بقدرتها على خلق أثر ملموس في حياة المواطنين اليومية. فالتنمية تقاس بمدى شعور المواطن بتحسن معيشه، لا بمجرد المؤشرات الرسمية.

وعليه، فإن المرحلة القادمة ستتطلب:

  • تفعيلًا أكثر صرامة لمبادئ الحكامة؛

  • تقليصًا للفوارق المجالية والاجتماعية؛

  • تعميقًا للثقة بين المواطن والمؤسسات؛

  • ومزيدًا من التواصل الحكومي الشفاف.

إن المغرب يسير، بوعي وواقعية، نحو بناء نموذج تنموي جديد، يراهن على الإنسان قبل كل شيء. ويبقى التحدي المركزي هو تحويل هذا الطموح إلى ممارسة يومية تحفظ للمجتمع تماسكه وللدولة استقرارها وللمستقبل أفقه المفتوح.


0 التعليقات: