الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، ديسمبر 01، 2025

خريطة الإصدارات العربية الجديدة : عبده حقي

 


يتحرّكُ مشهدُ النَّشر العربي في السنوات الأخيرة كما لو أنّه يُعيد ترتيبَ نفسه من جديد؛ فالعناوين تتكاثر، ودور النشر تتوسّع، ومعارض الكتاب تتحوّل إلى مختبرٍ حيٍّ للأفكار واللغات والرهانات الثقافيّة. وفي قلب هذا الحراك، يبرز المغرب من جهة، والعالم العربي بمشرقه ومغربه من جهة أخرى، بوصفهما فضاءين متداخلين، تتقاطع فيهما سياسات الدعم، وتستوي على أرضهما مغامرات سرديّة وفكريّة جديدة، تدفع بالكتاب العربي خطوة أخرى إلى الأمام.

أوّلًا: المغرب.. من سياسة الدعم إلى تجديد الخريطة التحريريّة

من يتتبّع جديد الإصدارات في المغرب يلمس بسرعة أنّ الأمر لا يتعلّق بمجرد تزايد كميّة الكتب، بل بتشكّل مناخٍ ثقافيّ تدعمه الدولة كما تدعمه مبادرات القطاع الخاص. فقد أطلقت وزارة الشباب والثقافة والتواصل برنامج دعم النشر والكتاب في نسخته لسنة 2025، في امتدادٍ لتجربة بدأت منذ سنوات، لكنّها اليوم أكثر وضوحًا في رهاناتها: تشجيع التأليف الأصلي بالعربية والأمازيغية والفرنسية، دعم مشاريع النشر الجادّة، وتحفيز ترجمة أعمال الكتّاب المغاربة، بمن فيهم أبناء الجاليات في أوروبا وأمريكا، بوصفهم جسورًا حقيقيّة للدبلوماسيّة الثقافيّة المغربية في العالم. 

هذا الدعم العمومي لم يَعُد مجرّد منحةٍ موسمية، بل تحوّل إلى آلية تستثمر فيها الدولة صورتها الثقافية؛ فحين يتمّ تمويل مشروع بحثيّ في التاريخ المغربي، أو رواية تشتبك مع أسئلة الهجرة والهوية، أو ديوان شعري يعيد قراءة التراث، فإنّ الأمر لا يحمل بعدًا إبداعيًّا فقط، بل يرسم أيضًا ملامح سرديّة وطنية متعدّدة الأصوات.

إلى جانب ذلك، تتكثّف التظاهرات المخصّصة للكتاب، من المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط في دورته الثلاثين، الذي كرّس موقع المغرب كمنصّة عربية وإفريقيّة للحوار حول النشر والقراءة،  إلى المعرض الدولي لكتاب الطفل واليافعين الذي تحضر فيه منظمات إقليميّة كالإيسيسكو عبر برامج موجهة للأجيال الجديدة، وورشات تشجّع على القراءة باللغة العربية واللغات الأخرى. 

في هذا السياق، تتحرّك دور نشر مغربية وعربية تشتغل داخل المغرب مثل المركز الثقافي العربي، منشورات توبقال، أفريقيا الشرق، منشورات marsam، و"منشورات المركز الثقافي للكتاب" وغيرها، في مشهد متعدِّد، تتجاور فيه السلاسل الفكرية مع الرواية والشعر وكتب الطفل، وتستند إلى خبرة عمرها عقود في صناعة الكتاب. 

جديد الإصدارات المغربية والعربية الصادرة عن دور مغربية أو مشتركة، يفتح العين على تحوّلات عميقة في الكتابة. نلمس ذلك مثلًا في الروايات الصادرة حديثًا عن المركز الثقافي العربي لكُتّاب مغاربة، من بينهم أسماء روائية بارزة تواصل الاشتغال على أسئلة الذاكرة والمدينة والعنف الرمزي، كما في الرواية الجديدة لعبد الكريم جويطي التي يقدّمها الناشر بوصفها إضافة إلى مسار الرواية المغربية المعاصرة.  كما يواصل الناشر نفسه رهانَه على أدب مُتخيَّلٍ بلغة سلسة لكن بمحمولات فكرية، مثل رواية «حياة الأحلام للجوارب اليتيمة» للكاتبة ماري فاراي، التي صدرت سنة 2024 بالعربية، وتشتبك عبر حكاية امرأة تنتقل من نيويورك إلى باريس مع سؤال الجسد والمدينة والذاكرة، بما يجعل النص أقرب إلى مختبرٍ لسؤال الاغتراب الإنساني بلغته الكونية. 

هذه الأمثلة ليست حصرًا، لكنها تكشف مسارًا عامًا: الرواية المغربية، ومعها الكتاب الفكريّ، يميلان اليوم إلى التداخل بين المحليّ والكونيّ، بين السيرة والتخييل، وبين النقد الثقافي والكتابة الأدبيّة، في اتجاه نصوصٍ تسعى إلى مخاطبة القارئ العربي داخل وخارج المنطقة في آنٍ معًا.

ثانيًا: دور النشر العربية في المغرب.. بين الرباط وبيروت والدوحة

لا يمكن الحديث عن جديد الإصدارات في المغرب دون الالتفات إلى حضور دور نشر عربية عريقة من خلال الوكلاء والمكتبات والمعارض، إذ يتحوّل السوق المغربي إلى فضاءٍ لاستقبال ما تنتجه بيروت والقاهرة وعواصم الخليج من كتب.

ففي مكتبات الرباط والدار البيضاء، تتجاور إصدارات دار الساقي ودار الآداب ودار التنوير ودار الرافدين مع منشورات الدور المغربية. هذه الدور، التي تُعدّ من الفاعلين الكبار في الحقل العربي، تراهن على القارئ المغاربي بوصفه قارئًا متابعًا للرواية العربية الجوائزية، وللكتاب الفكري الذي يناقش قضايا الديمقراطية والتحوّلات الاجتماعية والفكر الديني.

إصدارات دار الساقي مثلًا في موسم 2024–2025 تتراوح بين كتب الفكر السياسي والنقد الثقافي والسير الذاتية، فضلًا عن أعمالٍ أدبية بالعربية والإنجليزية، تُوزَّع اليوم عبر شبكة دولية تتقاطع فيها بيروت ولندن، كما يظهر في كاتالوغها الأخير الذي يضم كتبًا عن الذاكرة العربية، والهجرة، والهوية، إضافة إلى نصوص مترجمة حول تاريخ الخداع السياسي في أوروبا وغيرها. 

أما دار الآداب اللبنانية، فترسّخ حضورها من جديد عبر أعمال روائيين بارزين. يكفي أن نشير إلى رواية هدى بركات «هند، أو أجمل نساء العالم» التي نشرتها الدار سنة 2024، وتُوِّجت بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب سنة 2025، لتدرك كيف يمكن لكتاب واحد أن ينعش صورة الناشر، وأن يفتح حوارًا جديدًا حول راهن الرواية العربية.  وقبل ذلك بوقت قصير، كانت الدار قد نشرت رواية «قناع بلون السماء» لباسِم خندقجي، الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) سنة 2024، لتكرّس مكانتها كبيتٍ روائيّ يلتقط التحوّلات العميقة في المتخيّل العربي. 

حضور هذه الدور في المغرب لا يقتصر على التوزيع التجاري، بل يمتدّ إلى المشاركة المكثفة في المعرض الدولي للنشر والكتاب، حيث تُنظّم لقاءات توقيع وندوات، وتُقدَّم الكتب الجديدة أمام قرّاء مغاربة يتابعون عن قرب الجوائز العربية الكبرى، مثل الجائزة العالمية للرواية العربية، وجائزة الشيخ زايد، وجائزة كتارا، وغيرها.

ثالثًا: العالم العربي.. الجوائز، المعارض، وخريطة العناوين الجديدة

على مستوى العالم العربي الأوسع، يبدو واضحًا أنّ مشهد النشر يتحرّك في ثلاث دوائر كبرى: الجوائز الأدبية، معارض الكتاب، واستراتيجيات دور النشر الكبرى.

على صعيد الجوائز، شكّلت اللائحة الطويلة والقصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية لسنة 2025 مرآةً دقيقةً لاتجاهات الرواية الحديثة: روايات تتناول قضايا المنفى، والتحوّلات السياسية، وأحوال المرأة، والسرديات التاريخية البديلة، صدرت عن دور مثل دار الساقي ودار الآداب ومسكيلياني ودار الرافدين والمتوسط وغيرها، ما يعكس توازُنًا بين ناشرين تقليديين وآخرين أحدث عهدًا في المشهد. 

وفي موازاة الجوائز، تواصل معارض الكتاب الكبرى ترسيخ دورها بوصفها منصّات لإطلاق الإصدارات الجديدة. معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025 عاد ليؤكّد مكانته كأحد أكبر الفضاءات العربية لتداول الكتاب، بجناح سعوديّ نشيط يعرض أحدث ما أنتجته هيئة الأدب والنشر والترجمة في مجالات الدراسات السياسية والفكرية والكتب الموجّهة للشباب. 

أما معرض الرياض الدولي للكتاب، فقد ثبت خطواته كحدث ثقافيّ متعدّد الأبعاد، لا يعرض الكتب فقط بل يقدّم برامج للترجمة ولقاءات مع الناشرين، ويستقطب سنويًّا دور نشر عربية من المغرب وتونس ولبنان وسوريا والعراق، في تقاطع بين أسواق المشرق والمغرب. 

ويبقى معرض الشارقة الدولي للكتاب، في نسخته المقبلة 2025، واحدًا من أضخم هذه التظاهرات؛ فهو يستقطب آلاف الناشرين من العالم، ويُقدَّم اليوم بوصفه ثالث أكبر معرض كتاب عالميّ، ومركزًا لتحريك سوق الحقوق والترجمة من العربية وإليها.  ومن خلاله، تُطلق دور نشر عربية عديدة كتالوغاتها الجديدة في السرد والفكر وكتب الطفل، مستفيدة من حضور إعلامي كثيف ومن برامج موازية في النقد والترجمة والكتابة الإبداعية.

من جهة أخرى، تواصل مجلات وملاحق ثقافية عربية رصدَ أهم الروايات والدراسات الصادرة كل سنة. يكشف مثلًا رصدٌ صحفيّ لأبرز عشرين رواية عربية صدرت في 2024 عن تنوّع لافت في المشهد: من روايات تستعيد التاريخ العثماني، إلى نصوص تستشرف مستقبلًا dystopian، مرورًا بكتابات نسائية تعيد كتابة الجسد والمدينة.  هذا التنوع لا يُشغل القارئ العربي فقط، بل يغذّي أيضًا حركة الترجمة إلى اللغات الأجنبية، سواء عبر دور عربية متخصّصة في الترجمة أو من خلال تعاونها مع ناشرين أوروبيين وأمريكيين.

رابعًا: بين الورقي والرقمي.. ملامح جيلٍ جديد من الناشرين والكتّاب

إلى جانب الدور العريقة، ظهرت في السنوات الأخيرة موجة من دور النشر الصغيرة والرقمية في المغرب والعالم العربي، تعتمد على الطباعة عند الطلب، أو تمزج بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني، وتخاطب جمهورًا شابًّا اعتاد القراءة على الشاشات بقدر ما يعتادها على الورق.

في المغرب، تكشف لوائح دور النشر المحدثة لعام 2025 عن حضور بيوت جديدة تراهن على أدب الشباب، وكتب التنمية الذاتية، والنصوص القصيرة الموجّهة لوسائط التواصل الاجتماعي، إلى جانب دور تحافظ على مسافة نقدية من هذا الاتجاه، وتواصل الاستثمار في الكتب الفكريّة والترجمات الثقيلة. 

وفي المشرق، تواصل دور مثل ساقي بوكس ودار عرب وغيرها نشر نصوص عربية مترجمة إلى الإنجليزية والفرنسية، ما يفتح نافذةً جديدة للكُتّاب العرب على قرّاء آخرين، ويجعل من بعض الإصدارات العربية الحديثة جزءًا من حوارٍ عالميّ حول قضايا الهويّة والذاكرة والسياسة. 

هذا التداخل بين الورقي والرقمي، بين المحلي والعالمي، لا يعني نهاية دور الناشر التقليدي، بل إعادة تعريفه؛ فدار النشر اليوم ليست مطبعة فقط، بل فريق تحرير وتسويق وحقوق ترجمة، وشريكٌ في صناعة الصورة الرقمية للكاتب والكتاب معًا.

خامسًا: آفاق مفتوحة.. أيّ مستقبلٍ للكتاب العربي؟

أمام هذا الحراك، يبدو السؤال عن مستقبل الإصدارات العربية ودور النشر سؤالًا مفتوحًا أكثر مما هو حُكمٌ جاهز. غير أنّ المؤشرات الحالية تسمح ببعض الملاحظات:

  • أوّلًا، إنّ المغرب يسير بخطى ثابتة في تحويل دعم النشر من إجراء ظرفي إلى سياسة ثقافيّة مستمرّة، تُشرك الناشرين والكُتّاب ومهنيّي الكتاب في صياغة المشهد.

  • ثانيًا، إنّ المركز الثقل في العالم العربي لم يعد حكرًا على عاصمةٍ واحدة؛ إذ تتقاسم القاهرة وبيروت والرياض والشارقة والرباط اليوم أدوارًا مختلفة في سوق النشر، من حيث الجوائز، المعارض، والتجارب الريادية في الترجمة والتوزيع.

  • ثالثًا، إنّ الكتاب العربي الجديد – سواء صدر في المغرب أو في أيّ بلد عربي آخر – يميل أكثر فأكثر إلى كسر الحدود بين الأجناس: الرواية تمتزج بالسيرة، والنقد الثقافي يتسلّل إلى النصوص السردية، والبحث الأكاديمي يقترب لغويًّا من القارئ العام، وهو ما يظهر بوضوح في كثير من الكتب التي وصلت إلى القوائم الطويلة للجوائز أو حظيت بتغطية نقدية واسعة. 

في النهاية، يمكن القول إنّ جديد الإصدارات العربية، ودور النشر في المغرب والعالم العربي، لا يُختزل في عناوين محدودة أو أسماء بعينها، بل في هذه الحركة المتواصلة التي تجعل من الكتاب مشروعًا جماعيًّا: دولة تدعم، ناشر يغامر، كاتب يبتكر، وقارئ يمدّ يده كلّ يوم إلى غلاف جديد، بحثًا عن جملةٍ تُضيف شيئًا ما إلى حياته، ولو كان ذلك الشيء مجرّد شعورٍ بأنّ اللغة ما زالت قادرة على أن تمنحنا فرصة ثانية لفهم العالم.


0 التعليقات: