الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، ديسمبر 15، 2025

مِنَ المَسْرَحِ إِلَى السَّحَابَةِ السِّيادِيَّة… حَرَاكٌ ثَقافِيٌّ وَرَقْمِيٌّ يَكْتُبُ عَالَمَ دِيسَمْبَر: عبده حقي

 


فِي صَبَاحِ هٰذَا اليَوْمِ، تَبْدُو الخَريطَةُ الثَّقافِيَّةُ وَالفَنِّيَّةُ وَالإِعْلامِيَّةُ كَأَنَّهَا تَتَنَفَّسُ بِإِيقاعٍ وَاحِدٍ: إِيقاعُ المُدُنِ وَهِيَ تُراجِعُ مَعْنَى الهُوِيَّةِ فِي زَمَنِ الصُّوَرِ المُتَسارِعَةِ وَالمَضامِينِ المُوَلَّدَةِ. فِي المَغْرِبِ، يَتَحَوَّلُ المَشْهَدُ إِلَى وَرْشَةٍ مَفْتُوحَةٍ: مَعارِضُ تَشْكِيلٍ تَسْتَدْعِي الذَّاكِرَةَ وَتُجَرِّبُ عَلَى حافَّةِ المُعاصَرَةِ، وَمَهْرَجاناتٌ تَمْنَحُ الشَّبابَ مِنَصَّةً لِيَقُولوا “نَحْنُ هُنَا” بِصَوْتِ الفَنِّ لا بِضَجيجِ المُناسَبَاتِ. وَفِي الشَّارِعِ العَرَبِيِّ الأَوْسَعِ، تَتَجاوَرُ وَعُودُ المَواسِمِ الفَنِّيَّةِ الكُبْرَى مَعَ تَطْلُعٍ إِلَى أَنْ تَصِيرَ الثَّقافَةُ قُوَّةً ناعِمَةً مُسْتَدِيمَةً لا زِينَةً عابِرَةً.

فِي المَغْرِبِ، تَلْتَقِطُ الدارُ البَيْضاءُ خَيْطًا لافتًا: مَعْرِضٌ فَنِّيٌّ يَحْمِلُ دَلالَةَ العَدَدِ وَالرَّمْزِ فِي آنٍ، مُقَدِّمًا أَعْمالًا لِعَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ الفَنّانِينَ فِي رِهانٍ جَمالِيٍّ يَسْتَعِيرُ مِنَ “الأَرْشِيفِ” لُغَتَهُ وَمِنَ “الحاضِرِ” أَدَواتِهِ، لِيَخْرُجَ المُشاهِدُ وَهُوَ يَحْمِلُ سُؤالًا بَسِيطًا وَحَادًّا: كَيْفَ يَصِيرُ الفَنُّ شَهادَةً عَلَى زَمَنِهِ دُونَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى مُجَرَّدِ زِينَةٍ؟ وَفِي المُقابِلِ، تَتَواصَلُ فِي العاصِمَةِ الِاقْتِصادِيَّةِ مَواعِيدُ تَشْجِيعِ المَواهِبِ المَحَلِّيَّةِ، حَيْثُ تَصْعَدُ أَصْواتٌ فَنِّيَّةٌ شابَّةٌ فِي الغِناءِ وَالفُنونِ وَالتَّعْبيرِ، كَأَنَّها تَقُولُ إِنَّ المُدُنَ الكُبْرَى لا تَحْيا بِالإِسْمِ وَحْدَهُ، بَلْ بِأَنْ تَجِدَ فِي كُلِّ جِيلٍ مَنْ يُعِيدُ اِخْتِراعَ أُفُقِها.

أَمَّا فِي العالَمِ العَرَبِيِّ، فَتَبْرُزُ خُلاصَةٌ مُهِمَّةٌ: الثَّقافَةُ تَسْتَعِيدُ صِيغَتَها كَمَجالٍ لِلتَّخْطيطِ لا لِلِاحْتِفاءِ فَقَط. فِي الخَلِيجِ، تَتَوالَى إِعْلاناتُ المَواسِمِ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ الأُورْكِسْترا وَالأُوبِرا وَالعُروضِ الكُبْرَى وَالتَّجْرِبَةِ المُتَعَدِّدَةِ المَنافِذِ، فَتَتَجاوَرُ المَسارِحُ مَعَ المَعارِضِ وَالوَرَشاتِ وَالأَماكِنِ الَّتِي تُدِيرُ الحِوارَ بَدَلَ أَنْ تَكْتَفِي بِالتَّصْفِيقِ. وَفِي السَّعودِيَّةِ، تَتَأَكَّدُ مَوْضُوعَةُ “السَّرْدِ” كَمِحْوَرٍ: مَهْرَجاناتُ الحَكْيِ وَالوَرَشاتُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ العَصْرَ الرَّقْمِيَّ لَمْ يَقْتُلِ القِصَّةَ، بَلْ دَفَعَها لِتَجْرِبَ أَشْكالًا أُخْرَى، كَالْمَسْرَحِ التَّفاعُلِيِّ وَالعَرْضِ الَّذِي يَمْزُجُ الصُّوَرَ بِالأَصْواتِ وَيَجْعَلُ المُتَلَقِّي شَرِيكًا لا مُسْتَهْلِكًا.

فِي إِفْرِيقِيا، تَتَشَكَّلُ صُورَةٌ لا تَخْلُو مِنْ دَلالَةٍ: الفَنُّ يُصاحِبُ التِّكْنولوجيا لا كَزِينَةٍ حَداثِيَّةٍ، بَلْ كَوَسِيلَةٍ لِحِفْظِ المَعْنى وَتَحْرِيرِ السَّرْدِ مِنْ مَراكِزِهِ التَّقْلِيدِيَّةِ. تَجَارِبُ المُهَرْجاناتِ الرَّقْمِيَّةِ وَالثَّقافَةِ الإِبْداعِيَّةِ تَكْشِفُ أَنَّ القارَّةَ لا تُرِيدُ أَنْ تُسْتَهْلَكَ كَمادَّةٍ فُولْكْلُورِيَّةٍ، بَلْ تَتَطَلَّعُ إِلَى أَنْ تَسْرُدَ نَفْسَها بِأَدَواتِها: أَلْعابٌ، وَواقِعٌ مُعَزَّزٌ، وَقِصَصٌ تَفاعُلِيَّةٌ تُسافِرُ بَيْنَ اللُّغَاتِ وَالمَدُنِ وَالأَجْيالِ. وَفِي العالَمِ، تُواصِلُ المُؤَسَّساتُ الفَنِّيَّةُ الكُبْرَى التَّسْويقَ لِمَواسِمِ دِيسَمْبَر كَشَهْرٍ لِـ“المَعارِضِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تُرى”، مِنْ آسِيا إِلَى أُورُوبّا وَأَمْرِيكَا، فَتَتَنافَسُ المُدُنُ عَلَى سُؤالٍ واحِدٍ: مَنْ يَصْنَعُ اللَّحْظَةَ الأَكْثَرَ إِقْناعًا لِزائِرٍ صَارَتْ عَيْنُهُ مُدَرَّبَةً عَلَى السُّرْعَةِ؟

فِي المَحْوَرِ الثّانِي—الصَّحافَةِ وَالإِعْلامِ وَالتِّكْنولوجيا وَالذَّكاءِ الِاصْطِناعِيِّ—يَبْدُو اليَوْمُ كَأَنَّهُ يَكْتُبُ فَصْلًا جَدِيدًا فِي عَلاقَةِ الدَّوْلِ بِالْمَعْلُومَةِ. فِي المَغْرِبِ، تَتَصاعَدُ لُغَةُ “التَّنْظِيمِ” وَ“السِّيادَةِ الرَّقْمِيَّةِ”: نِقاشٌ حَوْلَ أُطُرٍ لِتَقْنِينِ الذَّكاءِ الِاصْطِناعِيِّ، وَتَقْوِيَةِ البُنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ، وَفِكْرَةِ “السَّحابَةِ السِّيادِيَّةِ” الَّتِي تُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ البَياناتِ أَقْرَبَ إِلَى حَمايَةِ السِّيادَةِ مِنْها إِلَى مُجَرَّدِ خِدْمَةٍ تِجَارِيَّةٍ. وَفِي غُرَفِ الأَخْبارِ، يَتَزاوَجُ القَلَقُ وَالأَمَلُ: أَدَواتٌ تُساعِدُ عَلَى التَّفْرِيغِ وَالتَّلْخِيصِ وَالتَّحَقُّقِ وَالبَحْثِ، فَتَرْفَعُ السُّرْعَةَ، لٰكِنَّها تَفْتَحُ—فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ—سُؤالَ المِهْنَةِ: مَنْ يَتَحَمَّلُ المَسْؤُولِيَّةَ عِنْدَما يَخْطَأُ النَّصُّ المُوَلَّدُ؟ وَكَيْفَ تُحافِظُ الصَّحافَةُ عَلَى صَوْتِها البَشَرِيِّ وَهِيَ تَسْتَعِينُ بِمَاكِينَةٍ تُجِيدُ التَّشْبِيهَ وَلا تُجِيدُ الضَّمِيرَ؟

فِي العالَمِ العَرَبِيِّ وَإِفْرِيقِيا وَالعالَمِ، تَتَكاثَفُ التَّقارِيرُ وَالنِّقاشاتُ حَوْلَ ثِقَةِ الجُمْهُورِ فِي مُحْتَوًى تَزْدادُ فِيهِ حُضُورًا إِجابَاتُ البَحْثِ المُوَلَّدَةُ وَالمُلَخَّصاتُ الآلِيَّةُ. وَبِقَدْرِ ما تَعِدُ هٰذِهِ الأَدَواتُ بِتَبْسِيطِ الدُّخولِ إِلَى الخَبَرِ، فَإِنَّها تَفْرِضُ مِيزانًا أَخْلاقِيًّا جَدِيدًا: الشَّفّافِيَّةُ، وَالإِفْصاحُ عَنْ طَبِيعَةِ المُحْتَوَى، وَحِمايَةُ حُقوقِ المُلْكِيَّةِ، وَتَحْصِينُ الجُمْهُورِ مِنَ التَّضْلِيلِ. كَأَنَّ العَصْرَ يَقُولُ لِكُلِّ مُؤَسَّسَةٍ إِعْلامِيَّةٍ: اِرْبَحِ السُّرْعَةَ، لٰكِنْ لا تَخْسَرِي الثِّقَةَ؛ فَالثِّقَةُ هِيَ الرَّأْسُمالُ الَّذِي لا يُوَلِّدُهُ أَيُّ نَمُوذَجٍ حاسُوبِيٍّ وَحْدَهُ.

أَمَّا المَحْوَرُ الثّالِثُ—الأَدَبُ الرَّقْمِيُّ—فَهُوَ اليَوْمَ أَشْبَهُ بِجِسْرٍ يَمْتَدُّ فَوْقَ أَنْهارٍ كَثِيرَةٍ: بَيْنَ الكِتابِ وَالشّاشَةِ، بَيْنَ القارِئِ وَاللّاعِبِ، بَيْنَ النَّصِّ وَالصُّورَةِ وَالصَّوْتِ. فِي العالَمِ العَرَبِيِّ، يَتَقَدَّمُ “الحَكْيُ” نَفْسُهُ كَعُنْصُرٍ مِحْوَرِيٍّ: وَرَشاتٌ وَمَواعِيدُ سَرْدِيَّةٌ وَمُبادَراتٌ تُعيدُ اِعْتِبارَ القِصَّةِ الشَّفَوِيَّةِ وَتُدْخِلُها فِي قَوالِبَ رَقْمِيَّةٍ، حَيْثُ يَصِيرُ المَشْهَدُ وَالأَداءُ وَالتَّفاعُلُ أَجْزاءً مِنْ نَصٍّ مُتَحَرِّكٍ. وَفِي إِفْرِيقِيا، تَظْهَرُ فِكْرَةُ “السَّرْدِ الرَّقْمِيِّ” كَمَجالٍ لِحِفْظِ التُّراثِ وَتَجْدِيدِه، وَكَأَنَّ القارَّةَ تَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَمْلِكُ مَخازِنَ البَياناتِ يَمْلِكُ الحِكاياتِ؛ الحِكاياتُ تُسْتَرَدُّ بِالفَنِّ وَالمُشارَكَةِ وَحَقِّ التَّسْمِيَةِ.

وَفِي العالَمِ، يَتَزاوَجُ الأَدَبُ الرَّقْمِيُّ مَعَ ظاهِرَتَيْنِ: تَضَخُّمُ المَنْصّاتِ الَّتِي تُوَزِّعُ القِصَصَ عَلَى شَكْلِ سِلاسلَ تَفاعُلِيَّةٍ، وَازْدِيادُ الِاهْتِمامِ بِحُقوقِ المُؤَلِّفِ فِي زَمَنٍ تُساعِدُ فِيهِ الخَوارِزْمِيّاتُ عَلَى التَّقْلِيدِ وَالمُحاكاةِ. وَهُنا يَبْرُزُ سُؤالٌ جَمِيلٌ وَمُرْعِبٌ مَعًا، كَمَثَلِ مِرآةٍ تُضِيءُ وَتُعَمِّي: إِذا كانَ بِإِمكانِ التِّكْنولوجيا أَنْ تُحاكِي الأَساليبَ، فَما الَّذِي يَبْقَى لِصَوْتِ الكاتِبِ؟ يَبْقَى تِلْكَ “الرَّعْشَةُ” الَّتِي لا تُقاسُ: خِبْرَةُ الحَياةِ، وَحِسُّ المُفارَقَةِ، وَالقُدْرَةُ عَلَى أَنْ تَقُولَ الحَقيقَةَ وَهِيَ مُقَنَّعَةٌ بِالجَمالِ.

— تَوْقِيع: عَبْدُهُ حَقِّي

0 التعليقات: