تبدو الرواية اليوم ككائن يسير على أرض تتحرك تحته بلا إنذار. فما كان ثابتًا بالأمس، صار قابلًا للتلاشي أو الاستبدال، وما كان يُعدّ حقيقة سردية، أصبح احتمالًا من بين احتمالات لا تُحصى. في قلب هذا الاضطراب تقف تقنيات التزييف العميق، لا كأدوات تقنية فحسب، بل كقوة رمزية تعيد تشكيل علاقتنا بالصدق، وبالكتابة، وبالذاكرة ذاتها.
التزييف العميق، في جوهره، ليس مجرد حيلة رقمية متقنة، بل هو اختبار قاسٍ لقدرتنا على التصديق. حين يصبح بالإمكان إعادة تركيب صوت كاتب راحل، أو إقناع القارئ بأن وثيقة مختلقة جزء من تاريخ حقيقي، فإن السرد يفقد براءته الأولى. هنا يستعيد كلام بول ريكور عن السرد بوصفه تنظيمًا للزمن معناه العميق، لأن الزمن نفسه يصبح عرضة للتلاعب، كما لو أنه مادة خام في يد خوارزمية صامتة.
في الأدب، يتخذ هذا التحدي شكل إغراء مزدوج. فمن جهة، تفتح التقنية أبوابًا واسعة لتجريب أشكال سردية غير مسبوقة، ومن جهة أخرى، تُغري بالانزلاق نحو محاكاة خادعة تقتل روح النص. يشبه الأمر لوحة مرسومة بإتقان شديد، لكن من دون توقيع؛ جميلة، نعم، لكنها تترك في النفس فراغًا غامضًا. وقد نبّه أومبرتو إيكو، في أكثر من مناسبة، إلى أن الخطر الحقيقي يكمن في الاعتياد على الزيف، لا في وجوده العابر.
الأصالة، في هذا المناخ، لم تعد مسألة بسيطة. لم يعد السؤال: من كتب النص؟ بل: لماذا كُتب؟ ولأي غاية؟ فحتى نص مولود من خوارزمية قد يحمل قيمة جمالية إن خضع لرقابة وعي إنساني ناقد، بينما قد يتحول نص «أصيل» ظاهريًا إلى أداة تضليل إن فقد بوصلته الأخلاقية. هنا تتقاطع أفكار فالتر بنيامين مع واقع جديد لم يكن ليتخيله، واقع تُنتج فيه الهالة صناعيًا، وتُسوَّق كحقيقة.
التجربة السياسية والإعلامية المعاصرة تزيد هذا القلق عمقًا. التقارير التي كشفت توظيف التزييف العميق في الحملات الدعائية المضللة تجعل من الرواية شريكًا محتملًا في معركة أكبر، معركة الدفاع عن المعنى نفسه. فالسرد، سواء أكان أدبيًا أو إعلاميًا، لم يعد بريئًا، بل صار فعلًا ذا تبعات.
ومع ذلك، لا يبدو الطريق مسدودًا بالكامل. فالرواية، بتاريخها الطويل في مساءلة الواقع، قادرة على تحويل هذا الخطر إلى مادة تفكير، بل إلى طاقة إبداعية ناقدة. يمكن للسرد أن يكشف التزييف بدل أن يتواطأ معه، وأن يُظهر آلياته بدل أن يخفيها. كأن الرواية تقول للقارئ: انتبه، هذا العالم قابل للتلفيق، لكن وعينا به هو خط الدفاع الأخير.
في النهاية، لا تقف المسألة عند حدود التقنية، بل عند حدود المسؤولية. الرواية التي ستبقى هي تلك التي تدرك أن الحقيقة لم تعد معطى يُسلَّم به، بل سؤالًا مفتوحًا يُصاغ بشجاعة، في زمن تتقن فيه الآلات فن الإقناع أكثر مما نتقنه نحن.







0 التعليقات:
إرسال تعليق