في خطوة ثقافية لافتة أعادت النقاشات القديمة حول الهوية والتراث في منطقة المغرب الكبير إلى الواجهة، أثار إدراج القفطان المغربي ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية لدى منظمة اليونسكو موجة واسعة من الجدل في المجتمع الجزائري ودواليب حكامه، حيث قوبل القرار بحالة من الصدمة والهزيمة، ووصفت بعض الأصوات هناك الخطوة بما سمّته «الاستيلاء الثقافي».
لقد جاء قرار اليونسكو
تتويجًا لمسار طويل من التوثيق والبحث العلمي الذي قدّمه المغرب، مدعومًا بالأدلة التاريخية
والأنثروبولوجية التي تثبت الجذور العميقة للقفطان في التاريخ المغربي، منذ العصور
المرينية والسعدية وصولًا إلى الدولة العلوية.
فالقفطان ليس مجرد
لباس احتفالي في المناسبات والأعياد، بل هو تعبير مركزي عن الحرفية المغربية، وعن تقاطع
التأثيرات الأندلسية والأمازيغية والعربية داخل نسيج ثقافي واحد ظل يتطور داخل المجال
المغربي، محافظًا على خصوصيته الجمالية والرمزية.
ولأن القفطان المغربي
ليس قالبًا واحدًا جامدًا، بل فسيفساء جمالية كاملة، فإن فهمه يظل ناقصًا دون التوقف
عند تنوع أصنافه الجهوية، وفي مقدمتها القفطان الفاسي والرباطي والتطواني، وهي مدارس
فنية قائمة بذاتها، لكل واحدة منها روحها وخطابها البصري الخاص.
فالقفطان الفاسي يُعدّ
الأكثر ارتباطًا بالعمق التاريخي والصرامة الجمالية. نشأ داخل فضاء فاس العالِمة والحِرفية،
حيث الدقة في التطريز، والاقتصاد في الزخرفة، والاعتماد على الألوان العميقة كالخمري
والأخضر الداكن والأزرق الملكي. يتميّز هذا القفطان بخياطة محكمة، وبحضور قوي لـ“الرندة”
و“الطرز الفاسي” الذي لا يهدف إلى الإبهار السريع، بل إلى إبراز الرصانة والوقار، كأنه
امتداد بصري لهيبة المدينة وعراقتها نفسها.
أما القفطان الرباطي،
فقد تشكّل في تماس مباشر مع البلاط السلطاني والدبلوماسية والبرتوكولات الملكية، ما
جعله أكثر انفتاحًا على الفخامة المدروسة. هو قفطان التوازن بين البساطة والأبهة، بين
الخط المستقيم واللمسة الناعمة. إن تطريزه أقل كثافة من الفاسي، لكنه أكثر إشراقًا،
مع استعمال واضح للذهب والفضة، وانسيابية في القصّات تعكس وظيفة القفطان كلباس رسمي
للتمثيل والاحتفال.
في حين يحمل القفطان
التطواني بصمة أندلسية واضحة، سواء في الألوان الزاهية أو في الزخارف النباتية والهندسية
الدقيقة. إن تطوان، بوصفها مدينة الذاكرة الأندلسية، منحت القفطان خفةً وأناقةً خاصتين،
حيث يقترب من الفن أكثر مما يقترب من البروتوكول. هنا تصبح الأقمشة أكثر تنوعًا، والتطريز
أكثر شاعرية، وكأن القفطان يروي قصة عبور حضاري بين ضفتي المتوسط
إن هذا التنوع الجهوي
لا يُضعف هوية القفطان المغربي، بل يؤكدها. فهو دليل على أن هذا الزي الباذخ لم يكن
منتجًا معزولًا، بل كائنًا ثقافيًا حيًا، تشكّل داخل مدن عريقة مختلفة، واستجاب لذائقة
مجتمعات متعددة، دون أن يفقد جذره المغربي العميق.
ومع انتقال القفطان
المغربي من فضاءات الذاكرة التقليدية إلى منصّات العرض الحديثة، لعبت معارض الموضة
المتخصصة دورًا حاسمًا في إعادة تقديمه بوصفه لباسًا قابلًا للحياة المعاصرة دون التفريط
في روحه الأصلية. فقد تحوّلت تظاهرات مثل عروض القفطان، ومعارض الأزياء التراثية، والملتقيات
الحِرفية، إلى مختبرات جمالية تلتقي فيها الخبرة التقليدية مع خيال المصمّمين المعاصرين.
في هذه الفضاءات، لم يعد القفطان قطعة محفوظة خلف الزجاج، بل جسدًا حيًا يتحرك على
المنصّة، يخاطب جمهورًا عالميًا بلغة الأناقة والذاكرة في آن واحد.
وقد سمحت هذه المعارض
بظهور تحديثات عصرية ذكية مست القَصّات، والزركشات والأقمشة، وحتى طرق التقديم في
الديفيلي، دون المساس بالهوية العميقة للقفطان. فقد تم إدماج خامات جديدة، وتخفيف الوزن،
وتبسيط بعض التطريزات، وإعادة توظيف القفطان في مناسبات غير احتفالية، ليصبح قابلًا
للارتداء اليومي أو شبه الرسمي. هذا التحديث لم يكن قطيعة مع الماضي، بل حوارًا معه؛
إذ ظل “المعلم” حاضرًا إلى جانب المصمّم، وظل الخيط التقليدي يتجاور مع الرؤية الحديثة،
في توازن دقيق جعل القفطان المغربي قادرًا على عبور الزمن، من دار المخزن إلى منصّات
الموضة العالمية، دون أن يفقد اسمه أو ملامحه.
في المقابل، عبّرت
أوساط إعلامية وثقافية جزائرية عن امتعاضها من قرار اليونيسكو، معتبرة أن تصنيف القفطان
كتراث مغربي هو «إقصاء» لما تصفه بـ«المشترك الثقافي المغاربي». وذهبت بعض الخطابات
المغرضة إلى حد اتهام المغرب بـ«احتكار» عناصر تراثية تعود للمنطقة المغاربية ككل.
غير أن هذا الغضب الحقود
والمجاني يعكس، في عمقه، خلطًا شائعًا بين الانتشار الجغرافي لعنصر ثقافي ما، وبين
موطن نشأته التاريخية، وهو خلط دأبت اليونسكو نفسها على توضيح الفرق بينه في ملفات
التصنيف.
إن مصطلح «الاستيلاء
الثقافي» الذي جرى تداوله وتمييعه في هذا السياق يبدو خارج إطاره المفاهيمي الدقيق.
فاليونسكو لا تمنح اعترافًا سياسيًا أو أيديولوجيًا، بل تعتمد على ملفات تقنية دقيقة
تشمل الأرشيف، والمخطوطات، والشهادات التاريخية، واستمرارية الممارسة داخل مجتمع محدد.
وبهذا المعنى، فإن
الاعتراف بالقفطان المغربي لا يمنع أي بلد آخر من إبراز أزيائه التقليدية الخاصة، أو
حتى عناصر متأثرة بالقفطان، لكنه في المقابل يقرّ بوضوح بمغربية الأصل والتطور التاريخي.
لا يمكن إذن فصل هذا
الجدل عن السياق الأوسع للتوتر السياسي بين المغرب والجزائر، حيث تحوّل التراث في السنوات
الأخيرة إلى ساحة صراع رمزي ومعنوي تعويضًا عن عجز السياسة عن بناء فضاءات تعاون حقيقية.
فبدل النظر إلى الاعتراف الدولي كفرصة للاحتفاء بالتنوع المغاربي، يجري توظيفه كوقود
إضافي للاستقطاب والخصومة.
بينما على الضفة الأخرى
للأطلسي، يواصل المغرب منهجه الهادئ والقائم على التراكم المؤسساتي في حماية تراثه
اللامادي، من فنون الطبخ بمراكش إلى الموسيقى العريقة بفاس واللباس التقليدي
بالرباط . ويُنظر إلى ملف القفطان كجزء من رؤية أشمل تهدف إلى تثمين الرأسمال الثقافي
المغربي عالميًا، وربطه بالصناعة الإبداعية والسياحة الثقافية.
في النهاية، يظل القفطان
المغربي شاهدًا حيًا على قدرة الثقافة المغربية على عبور القرون، وعلى أن المعارك الحقيقية
لا تُحسم بالصراخ الإعلامي، بل بالبحث والتوثيق والعمل المؤسساتي. أما الاعتراف الأممي،
فهو ليس نهاية التاريخ، بل لحظة تثبيت في سجل الذاكرة الإنسانية، لمن أحسن الدفاع عن
تراثه بلغته، وبأدلته، وبصبر التاريخ نفسه.
بقلم: عبده حقي








0 التعليقات:
إرسال تعليق