في كل مرة يخطو فيها ملف الصحراء المغربية خطوة إضافية نحو الحسم السياسي الواقعي، تعود جبهة البوليساريو ومنصّاتها الإعلامية إلى الواجهة بخطاب مألوف، يخلط بين الشعارات الحقوقية، والتحركات الرمزية، وبيانات التضامن الأيديولوجي، في محاولة لإيهام الرأي العام الدولي بأن النزاع ما يزال في نقطة الصفر. غير أن القراءة المتأنية لهذه التحركات تكشف أنها ليست سوى ردّ فعل مرتبك على التحولات العميقة التي يعرفها الملف، أكثر مما هي تعبير عن قوة سياسية أو حقوقية حقيقية.
فالمظاهرة التي نُظّمت أمام المفوضية الأوروبية في برشلونة، والتي جرى تقديمها على أنها “صرخة ضد الانتهاكات الجسيمة في المدن المحتلة”، لا تخرج في واقع الأمر عن كونها نشاطاً محدود التأثير، اعتادت عليه دوائر داعمة للبوليساريو في بعض الفضاءات الأوروبية. مظاهرات تُضخَّم إعلامياً أكثر مما هي مؤثرة سياسياً، وتُقدَّم كدليل على “تدويل القضية”، في حين أنها لا تعكس موقف المؤسسات الأوروبية، ولا تُترجم إلى قرارات رسمية أو مراجعات استراتيجية في علاقات الاتحاد الأوروبي مع المغرب.
والمفارقة اللافتة أن الخطاب الذي يرافق هذه التحركات يتجاهل بشكل كامل الواقع الميداني في الأقاليم الجنوبية للمملكة. فمدن مثل العيون والداخلة وبوجدور لم تعد مجرد أسماء في نشرات دعائية، بل فضاءات حضرية تعرف أوراشاً تنموية كبرى، ومشاريع بنية تحتية، واستثمارات في الطاقات المتجددة، والصيد البحري، والسياحة المستدامة. كما أنها تضم مؤسسات منتخبة تمثل الساكنة المحلية، وتشارك في اتخاذ القرار، في إطار الجهوية المتقدمة التي اختارها المغرب كخيار استراتيجي لتدبير تنوعه الترابي.
أما في الجانب الحقوقي، الذي تحاول البوليساريو جعله رأس حربة خطابها، فإن الوقائع الموثقة لا تسعف هذا الادعاء. فالأقاليم الجنوبية تخضع لرقابة مؤسسات وطنية مستقلة، وفي مقدمتها المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي يتوفر على لجان جهوية دائمة، تستقبل الشكايات، وتصدر تقارير، وتتفاعل مع الآليات الأممية. كما أن هذه الأقاليم استقبلت على مدى سنوات وفوداً دولية، برلمانية وحقوقية، خرجت في أغلبها باستنتاجات بعيدة كل البعد عن الصورة القاتمة التي تروّجها الدعاية الانفصالية.
وفي مقابل هذا الانفتاح، يلتزم خطاب البوليساريو صمتاً شبه تام تجاه الوضع الإنساني والقانوني في مخيمات تندوف. مخيمات توجد فوق التراب الجزائري، خارج أي إحصاء رسمي للسكان، وتُدار بمنطق أمني مغلق، وتُسجَّل داخلها انتهاكات خطيرة، من تقييد حرية التنقل، إلى تجنيد الأطفال، وحرمان المحتجزين من أبسط حقوقهم المدنية. وهي حقائق لم تعد خافية على عدد متزايد من المنظمات الدولية، رغم محاولات التعتيم والتشويش.
أما بيانات “التضامن” التي تصدر عن بعض التنظيمات السياسية، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فهي تعكس استمرار محاولة ربط قضية الصحراء المغربية بصراعات أيديولوجية لا علاقة لها بجوهر النزاع. تضامن يقوم على منطق الاصطفاف الشعاراتي، لا على قراءة قانونية أو سياسية رصينة. فالقضية الفلسطينية، بما تحمله من رمزية ومعاناة حقيقية، لا يمكن أن تُستعمل كورقة إسقاط ميكانيكي على نزاع مختلف في سياقه وتاريخه ومساراته الأممية.
وفي السياق ذاته، تتكرر الاتهامات الموجهة إلى اتفاقيات الشراكة بين المغرب والاتحاد الأوروبي، والتي يُصوَّر فيها التعاون الاقتصادي على أنه “استغلال غير مشروع” لثروات الصحراء. غير أن هذه الرواية تصطدم مرة أخرى بالمعطيات القانونية والمؤسساتية. فهذه الاتفاقيات خضعت لمساطر دقيقة داخل مؤسسات الاتحاد، وأُدرجت فيها آليات لضمان استفادة الساكنة المحلية، بشهادة المنتخبين وممثلي الفاعلين الاقتصاديين في الأقاليم الجنوبية. كما أن القضاء الأوروبي نفسه، رغم تعقيداته، لم يقطع مع منطق الشراكة مع المغرب، بل واصل البحث عن صيغ قانونية تضمن استمرارية التعاون، إدراكاً لأهميته الاستراتيجية.
والأهم من ذلك كله أن المغرب لم يعد يكتفي بالدفاع عن سيادته بمنطق ردّ الفعل، بل انتقل إلى عرض مشروع متكامل للحل، يتمثل في مبادرة الحكم الذاتي. مبادرة وُصفت من قبل مجلس الأمن الدولي بالجدية وذات المصداقية، وتحظى اليوم بدعم متزايد من دول مؤثرة في إفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا. مشروع يمنح الصحراويين تدبير شؤونهم المحلية بأنفسهم، في إطار سيادة وطنية واضحة، ويقطع مع منطق النزاعات المفتوحة التي تُغذّي الهشاشة وعدم الاستقرار.
في المقابل، لم تقدّم البوليساريو أي بديل عملي قابل للتطبيق. خطابها ما يزال أسير شعارات تقرير المصير بصيغتها الجامدة، دون قدرة على ترجمتها إلى مشروع سياسي واقعي، ودون استعداد لتحمّل كلفة التحولات الإقليمية والدولية. وهو ما جعلها، مع مرور الوقت، تفقد تعاطف فئات واسعة من الرأي العام الدولي، وتتحول من “حركة تحرر” كما كانت تُقدَّم، إلى كيان يعيش على هامش الزمن السياسي.
إن ما يجري اليوم ليس مجرد سجال إعلامي، بل صراع بين منطق الدولة ومنطق الدعاية. بين رؤية تستثمر في التنمية والاستقرار، وأخرى تعيش على تأبيد الأزمة. وفي هذا السياق، تبدو الصحراء المغربية وقد حسمت اتجاهها: نحو حل واقعي، سيادي، وتنموي، تقوده دولة اختارت الوضوح والمسؤولية. أما الحملات الدعائية، مهما ارتفع صوتها، فلن تغيّر حقيقة باتت راسخة في ميزان السياسة الدولية: الصحراء مغربية، والمستقبل فيها يُصنع بالعمل والمؤسسات، لا بالشعارات والبيانات.







0 التعليقات:
إرسال تعليق