الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الثلاثاء، ديسمبر 16، 2025

الجزائر بين الخوف من الانفصال والعجز عن الإصلاح: عبده حقي

 


عادت الجزائر لتتصدر واجهة النقاش السياسي والإعلامي، بفعل تداخل معقّد بين الحراك القبايلي في الخارج، والارتباك الرسمي في الداخل، وتنامي مؤشرات التآكل داخل مؤسسات الدولة نفسها. فالمشهد العام لم يعد قابلاً للاختزال في صراع تقليدي بين سلطة ومعارضة، بل بات يعكس أزمة بنيوية أعمق، تتقاطع فيها مسألة الشرعية، ووحدة الدولة، وإدارة التعدد الهوياتي، والعلاقات المتوترة مع الخارج، خاصة فرنسا.

أحد أبرز ملامح هذا المشهد يتمثل في النشاط المكثف لحركة تقرير مصير القبائل (الماك) في فرنسا، ولا سيما في باريس وضواحيها. فالإعلان المتكرر عن نوايا تتعلق بـ«استقلال القبائل»، ومحاولات تنظيم فعاليات رمزية على مقربة من السفارة الجزائرية، شكّل إحراجاً واضحاً للسلطات الجزائرية، وكشف في الآن ذاته حدود قدرتها على التأثير في الفضاء العام الأوروبي. اللافت هنا ليس فقط جرأة الخطاب الانفصالي، بل فشل التعبئة المضادة التي سعت أطراف جزائرية إلى تنظيمها في فرنسا، وهو فشل يعكس تراجع الجاذبية السياسية للنظام، حتى داخل الجالية التي طالما اعتُبرت خزاناً للدعم الرمزي.

هذا الإخفاق في الخارج يعيد طرح سؤال أعمق: لماذا لم تعد الرواية الرسمية الجزائرية قادرة على الإقناع، لا في الداخل ولا في المهجر؟ جزء من الجواب يكمن في الطريقة التي عالج بها النظام مسألة القبائل تاريخياً، من منطق أمني صرف، يختزل المطالب الثقافية والسياسية في تهمة «الانفصال» أو «العمالة للخارج». هذا الاختزال لم يؤدِّ إلى إضعاف الخطاب الكابلي المتشدد، بل ساهم، في المقابل، في تغذيته، عبر تحويله إلى قضية رأي عام دولي، بدل أن يبقى شأناً وطنياً قابلاً للنقاش السياسي.

في موازاة ذلك، تكشف بعض القضايا الاجتماعية والإدارية عن هشاشة الدولة من الداخل. ففضيحة الاعتداءات داخل طائرة تابعة للخطوط الجوية الجزائرية، وما رافقها من حديث عن فوضى وانفلات وانعدام المحاسبة، ليست حادثاً معزولاً، بل مرآة لخلل أوسع في تسيير المرافق العمومية، حيث تغيب المعايير، ويُستبدل منطق القانون بثقافة الإفلات من العقاب. هذه الوقائع، حين تتكرر، تُضعف الثقة العامة في مؤسسات الدولة، وتغذي شعوراً عاماً بأن النظام لم يعد قادراً على ضمان الحد الأدنى من الكرامة والأمان لمواطنيه.

أما قضية سحب جواز السفر من الناشطة أو الشخصية الإعلامية إبتسام حملاوي ومنعها من مغادرة البلاد، فقد مثّلت لحظة كاشفة لطبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع. فبدلاً من احتواء الخلاف عبر آليات قانونية شفافة، جرى اللجوء إلى أدوات إدارية ذات طابع عقابي، ما أعاد إلى الواجهة صورة الدولة التي تتعامل مع الاختلاف باعتباره تهديداً أمنياً لا حقاً سياسياً. مثل هذه الممارسات، وإن بدت ناجعة على المدى القصير، إلا أنها تراكِم الاحتقان وتدفع فئات متزايدة نحو القطيعة النفسية مع الدولة.

في هذا السياق المتوتر، تلعب فرنسا دوراً ملتبساً. فمن جهة، تحاول ضبط تحركات “الماك” ومنعها من تجاوز الخطوط الحمراء القانونية، ومن جهة أخرى، تجد نفسها متهمة من قبل الخطاب الرسمي الجزائري بالتساهل أو التواطؤ. هذا التناقض يعكس في العمق أزمة ثقة مزمنة بين البلدين، حيث تُستدعى الذاكرة الاستعمارية كلما عجزت السياسة الحاضرة عن إنتاج حلول واقعية. غير أن تحميل الخارج مسؤولية كل الأزمات لم يعد مقنعاً، لا للرأي العام الجزائري ولا للمراقبين الدوليين.

اللافت أن تصعيد “الماك” في الخارج يتزامن مع تراجع النقاش السياسي الحقيقي في الداخل. فالأحزاب إما مُدجّنة أو مهمّشة، والإعلام الرسمي فقد قدرته على التأطير، بينما يعيش الشارع حالة من الصمت الثقيل، صمت لا يعني الرضا، بل الإرهاق وفقدان الأمل. في مثل هذه الظروف، تتحول الحركات الراديكالية، سواء انفصالية أو شعبوية، إلى بدائل رمزية تملأ فراغ السياسة.

إن ما تعيشه الجزائر اليوم ليس مجرد أزمة ظرفية، بل لحظة مفصلية تطرح سؤال التغيير بحدة غير مسبوقة. فالإصرار على المقاربة الأمنية، وتجاهل المطالب السياسية والاجتماعية، والاستمرار في إدارة الدولة بعقلية الطوارئ، كلها عوامل تدفع نحو مزيد من التشقق الداخلي. في المقابل، لا يبدو أن السلطة قد استوعبت بعد أن الحفاظ على وحدة الدولة لا يمر عبر القمع، بل عبر عقد سياسي جديد، يعترف بالتعدد، ويعيد بناء الثقة، ويفتح أفقاً حقيقياً للمشاركة.

هكذا تبدو الجزائر عالقة بين خطاب رسمي يكرر نفسه، وحركات احتجاجية تتغذى من فشل هذا الخطاب، وفضاء خارجي يستثمر في التناقضات. والخطر الحقيقي لا يكمن فقط في ما يعلنه “الماك” أو غيره، بل في الفراغ السياسي الذي يسمح لمثل هذه المشاريع بأن تجد صدىً متزايداً. ففي نهاية المطاف، الدول لا تتفكك بفعل المؤامرات وحدها، بل عندما تعجز أنظمتها عن الإصغاء، والإصلاح، والتجدد.


0 التعليقات: